الأحد 22 كانون الأول 2024 | 7:59 صباحاً بتوقيت دمشق
عمر الشيخ

دمشقيّات بلا هويّة

دمشقيّات بلا هويّة
ساحة الأمويين 10/1/2015 تصوير: ع.ش
  • الأحد 19 أيلول 2021

فارغ هذا القلب، وهذه الدماء غير صالحة بعد الآن حتى للسفك! لا ترقصي أيّتها المدينة العصماء علينا، فالمنافي تكبر في أجسادنا، ونتحوّل مع كلّ صباح إلى أرصفةٍ تمشي عليها فوارغ الرصاص والبيرة... أحياناً أشعر أنني "نينار آرت كافيه" والجميع في أعماقي يشتم الجميع... أحياناً أشاهد وجهي مثل نفق كفرسوسة؛ مكفهر وحديث ومجنزر من كلّ الجهات بالقهر...
خضراء ورماديّة في مزيج الاختناق هي نسمات المقابر، هناك في الجنوب، لا يستطيع المسيح أن يمرّ على الموتى ويزيل عن أرواحهم غبار الطائفيّة وأسماء الحزن التي تنتجها الأرصفة كلّ نهار...
التائهون فوق صفحات التاريخ ماذا يدوّنون عنّا؟ في أيّ جحيمٍ يقيم صراخهم؟ لم تنقذنا لعناتهم بعد... التائهون في عُلب الدهان المحترقة، لا يعرفون أنّ الألوان مهما شُنقت لا تتوقف عن المسير إلى قماشها وأجساد الغرباء...!
يستطيع عشرات الشعراء أن يولدوا في لحظات داخل عاصمتنا الشهيّة لكلّ الكوارث وأشكال الحياة، لكنّهم لن يعرفوا كتابة الشعر خارج أسوار اختناقها اليوميّ...
تجدهم في الباصات الكبيرة ينقبون عن عيون الأطفال، تلتقطهم من على زجاج النوافذ، يلصقون وجوههم كنوعٍ من اللعب، شعراء بلا هويّة أو أسماء، بلا قصائد أو جراح، يكنسون الموت عن فراء القطط التي هربت من تحت القصف، ثم تجعلهم الأحداث مجرّد نعوات سريعة في مبوّبات الإعلانات على صفحات الجرائد...
نبتاع عدسات كاميرات بأحجام مختلفة لنؤكد للآخرين أننا هنا، لازلنا على خط الموت، نرفض الموت، وعلى خط الحياة نرفض الحياة، وعلى أبواب الجحيم نرفض المجهول... تنحسر مخيّلتنا في المشاهد التالية، ونطالب الله دائماً أن يكون معنا، لكنّ أحداً لا يسمعنا في هذا الزلزال الإنسانيّ الطويل...
من ينتمي لمدينةٍ تضيع هويّتها وعقلها وأولادها! بشكلٍ أو بآخر نحن نرضخ للذكريات ونبيع كلّ يومٍ أجسادنا لمخاطر العاصمة، بينما أشجعنا يقول: "مدينتي هذه أموت فيها ولا أموت منها...!".
إذاً قولوا لهم ألا يغلقوا باب شرقي هذا اليوم؛ لأنّ عيوننا سوف تصاب بالهذيان مع تكاثر البنادق والرعب على السور القديم، نريد أن نعبر دون أن تصطادنا القذيفة ونصبح جثةً بريئةً ومتهمةً في آن...
نريد أن نعانق الأعمدة أمام الجامع الأمويّ دون أن ترمقنا العيون اللئيمة وتطلق قيودها علينا ونحن أبسط من قصبات السكر التي يحطمها الأولاد بأسنانهم...
أبعدوا هؤلاء عن دمشق، فقد ازدحمت المخازن والجعب حول رئتيها وهي تلفظنا حتى لو صرنا شهداء...
إذا أردنا أن نحتفل بالأمكنة التي نحبّ على طريقتنا، فنعود للوراء ونقرأ ما قالوا.. لا نعرف سبيلاً لكتابةٍ تشبهنا، لأننا مثل هذه المدينة اليوم، أصبحت وأصبحنا... بلا هويّة!
نعود للوراء لنؤكّد للآخرين أن ثمّة من قال كذا وكذا عن الشام.. واليوم تعتب علينا الأزقة القديمة، والبيوت الشاميّة؛ لأننا تركناها للمصورين الأجانب، وتصفعنا أبواب الأمويين من محرابها إلى عتباتها ونحن ندير لها خدنا الثاني...
مطعونون في حبّنا أيّتها المسكينة، وأقدارنا الشعريّة والإنسانيّة تتعقّد كلّ يومٍ، نسقط في متحفك الوطنيّ فتبتلعنا التكية السليمانيّة، نهرب نحو جامعك الكبير فيطلّ علينا صلاح الدين هازئاً.. نأخذ دفاترنا ونسرق من بردى قليلاً من الحياة فيفرك قاسيون آذاننا لأننا تركناه وحيداً كلّ هذه الأيام...
أين من أسواقٍ لا تبيع الموت والتهديد المستمرّ؛ يمكن أن نشتري منها طمأنينتنا يا دمشق؟
أين من وجوهٍ تشاهدنا جرحى وقتلى؛ أكثر من عشاقٍ لهوائك وأزمنتك وجنونك الصامت؟
أين من أمهاتٍ يعِدننا إلى أرحامهنّ، بعيداً عنكِ يا مدينتي، حيث ينتحر كلّ شيءٍ من أجل بعض الحمقى...؟
متى سأقفل دفتري دون العودة إليك يا جغرافيا الوجع والصور المحترقة...؟
_________________________
من كتاب: قبل أن تمتلك الأرض - يوميات شعرية - دمشق 2019