الأحد 22 كانون الأول 2024 | 8:36 صباحاً بتوقيت دمشق
فؤاد علي ديب

"قبل أن تمتلك الأرض" يوميات شعريّة: وغد يهرب بدهشتنا

ع. الشيخ وكتابه.
  • الخميس 15 تشرين الأول 2020

عمر الشيخ هكذا نلج دفاتر أيّامه شعراً، ومن غير الشاعر يعيش أيّامه شعراً؟ فيكتب للجميع وعن الجميع؛ يكتب لأولاد الشوارع ويزفّ الحرب فيلبسها طرحة عروس، ثمّ لا يلبث أن يصيح بملء قلبٍ مجروح: يا أبي!، ومن شدّة حبّها له وخوفاً عليه، وحرصاً على ألا يهرب تضمّنه بين حناياها بعنف الطغاة، فيقول لظلّه: سجّل عندك.. وبعد كلّ هذه التوطئة الغامرة بالشعر نتنفّس نصوصه التي ليست شعراً، لكنّها شعر! فيصيبنا شيء ما لا نعرف ماهيته، نبكي ونفرح في آن معاً، نتيه ونلمّ شتات أحاسيسنا في لحظةٍ واحدة كأنّها لحظة ولادة لأمّ تبكي وتصرخ ألماً، بينما قلبها يرقص فرحاً بإعطاء الحياة روحاً جديدة.. هكذا هي لحظة الشعر حين نتصفّح هذه اليوميّات بهدوء، ونلمس ثوانيها تكّة تكّة (فتصيبنا الجمدة من هول الدهشة)

{كانوا يحبّون الشمس حتى تبنّاهم الجحيم}

يا لهذا التوق للحريّة! ومن يبتغي الحريّة عليه أن يسير خلفها ومن أجلها، حتى لو كان سيل البشر هادراً باتجاه العدم.

{أفتتُ جسدي عند زاوية الانتظار

ويعبر سيل البشر باتجاه العدم}

وحين نرتّق أحلامنا بأحزاننا لن يكون هناك مجاز يبلغ منتهاه أكثر من مشهد الأطفال:

{لا أدّعي الحزن فهو طبيعة بلادي

ولا شيء فوق الحزن سوى الأطفال}

ويعبر غير عابئ بترك أثر ما، لكنّه واثق بما يعتمل أصابع روحه فيقول:

{لا تترك أثراً

الأثر ثقل وهشاشة

اعبر كما تشاء بثقة البرق

لكن اعبر فقط

كأنّك أزمة نهاية الكون}

ومن ثمّ تبرز حكمته كشاعرٍ اختبر متاهات الأيّام من خلال تعامله مع مختلف صنوف الناس؛ فيقول أنّ الكذب عملة البشر، يتعاملون به في مدينة متهمة بالحياة:

{إنّها مقبرة جماعيّة بجثثٍ تمشي

وهي متهمة بالحياة

إنّها مضيق سياحيّ لسفن اليباس القادم إلى عيوننا...

إنّها دمشق}

وبعد كلّ هذا الألم والحكمة والشعر، يرفع عن الحرب طرحتها فيرى إله الفرح جميلاً

{على مقدار الفرح يأتي الإله جميلاً

في قلبك}

ثمّ يخلُد للحلم؛ فيحلم أن تضع الحرب أوزارها! فنراه يتساءل ماذا سيفعلون بالبنادق؟ فيجترح سؤالاً على مقاس شاعرّيته:

{متى سنكتب على السبطانات المحترقة

أحرف حبيباتنا الأولى

متى ستغيب القذائف عن أمطار أحلامنا}

ومثلما أراد أن يكتب الأحرف الأولى لأسماء الحبيبات، هو لا يريد أن يُكتب اسمه بذات حروف الرخام وآيات الموتى:

{لا تكتب اسمك كما يفعل العقلاء

بالأحرف الأبجديّة ذاتها

التي يستعملونها لنقش تواريخ وآيات الموتى}

وحين يرتطم الحزن بسقفه يفتح فجوة في هذا السقف حتى لتحسّ أنْ لا سقف لهذا الحزن المقيم:

{ فاتني موعد ضمّ نعشك .. لم أحمله على كتفي

فبقي جسدي متخشّباً حتى سكنتْك جثّتك

أرجوك لا تمت كلّ يوم بتلك القسوة}

وحين يناجي الشاعر أباه ما عليك إلا أن تقرأ الموسيقى القادمة من عمق الألم:

{لطالما كنتُ يا أبي أحبّ الموسيقى

لكن الخراب استهلك موسيقى روحي

أنا استمع للخراب يا أبي

هل تسمع جيّداً}

وحين يطلب الرضى من أبيه بعد رحيل أمّه، لا يطلبها بكلمات شاعر بل يطلبها بحزن شاعر:

{أنا جبان يا أبي

كنتُ أخشى الرخام لأنّه قاموس القبور

أمّا الآن.. ألفتُ التراب لشدّة الرحيل

ارمي حبّات سبحتك فوق جثتي

يا أبي

وارض على حفرتي الأخيرة}

وحين تضمّه حبيبته بعنف الطغاة يهرب إلى الحرب لكن إلى أين المفر؟:

{نهرب من الحرب إلى أحضان النساء.. أحياناً} وبعد ذلك تستلقي الشهوات على ظهرها بينما يراقب القطّ غاضباً هذا المشهد السرياليّ:

{تستلقي الشهوات على ظهرها

ويغطّ نَفَسي في نومٍ كاذب

أتلمّس عنقود الرطوبة في فراشنا

بينما غضب قطّة البيت من رائحة المشهد

دعينا ننسى الوصول ولا ننتهي الآن}

وحين ينتهي من حيث بدأ يبدو بعد حقيقيّاً أكثر من أيّ وقت مضى فيرسم بريشة العاشق الشاعر المفتقد ربّما لأمّه أكثر، وربّما لعشقٍ كسره بغيابه، نراه يرسم لوحة حقيقيّة للألم المتفشي كبقعة حبرٍ لا تزول عن البحر:

{في البداية كنتُ أظنّ أنّ الأرض قد تتسع لكلينا

لكنّها لم تتسع سوى لك!

أنا في شؤون الغياب أبدو حقيقيّاً أكثر...}

هكذا نتأبّط شاعراً من ذراع قصيدته، ونتسكّع معاً في أروقة يومه، ونعدّ عليه أنفاسه ونراقب لفتاته وحزنه ودهشته، وعلى الرغم من رقابتنا اللصيقة نلتفت فلا نجده! اللعنة عليك أيّها الشاعر الشقيّ كيف استطعتَ أن تهرب بقصيدتك بعد أن أدهشتنا أيّها الوغد!

ولنصوص شأن آخر، يتبع..