الأحد 24 تشرين الثاني 2024 | 5:54 صباحاً بتوقيت دمشق
عبد المجيد محمد خلف

"قبل أن تمتلك الأرض" لـ عمر الشيخ: لوحة حزن أبدية

غلاف المجموعة
  • الأثنين 26 آب 2019

حين تصبح الكلمة الأولى والأخيرة للحرب، وتختفي من الحياة ملامح الأمل، وترتفع أصوات الرّصاص فوق كلّ شيء، تنأى الرّوح بنفسها عن تلك المعمعة، وتنزوي وحيدة في عالمها المؤلم، الذي تتراكم فيه جثث القتلى والمنكوبين، وضحايا الحرب، يبقى الشّاعر وحده يعيش همومه؛ والتي هي هموم الجميع، ويروي مآسي تلك الحرب بدموع عينيه، ويكتب بدمه وثيقة الذّاكرة، ويحتفظ بها عميقًا في درج قلبه، لتكون شاهدة على ناعورة الدّم التي فتحت فمها لتغترف من أجساد الأبرياء ما شاءت، وترسم خيوط أبديّتها بمداد من القلق والوجع.
يدوّن الشّاعر السوري عمر الشيخ في كتابه الجديد "قبل أن تمتلك الأرض" تلك المأساة التي حصلت، والتي صارت الآن في جعبة الماضي، أو بعيدة عن اللحظات التي نعيشها الآن ولكنّها صارت جزءًا من واقع مؤلم، كان موجودًا ذات يوم، وتحوّل إلى كابوس مرعب، يتذكّره جميع من كانوا في سوريا، ومن مازالوا يعيشون فيها، أو الذين أداروا ظهرهم للموت، ليسلكوا جميع الدّروب بحثًا عن الخلاص في عبثيّة لا تنتهِ؛ لأنّهم أدركوا أنّه من المحال التخلّص من صور الوجع التي تعشّقت في أرواحهم، وستدوم ما داموا، وما دام الوجود.
هو الرّحيل إذًا، وهي الفاجعة، وهي روح الشّاعر من تتألم لها، وتكتب عنها بصمتٍ عميق، في محاولة للتخلّص من المعاناة التي تلاحقه بجريرة حبّه لوطنٍ كان فيما مضى يراقص أحلامه، ويروي له بكلّ شغف قصّة تعلّقه بكلّ من كانوا، لتغدو اللوحة على غير ما كانت عليها، وليغدو "أولاد الشّوارع- شخير الأشلاء"؛ كما عنون الشّاعر قصيدته بهذا الاسم تيمنًا بمدى عمق الوجع، واستحكام الموت في الدّروب، لتنتهي الأجساد وتتلاشى، ويرتفع صوتها بالشّخير الوحيد الذي يشهد على مفارقتها الحياة، على الرّغم من المحاولات الحثيثة التي قام بها هؤلاء للتسلّح بالأمل، ودفع أجسادها إلى طرق باب الرّجاء، في محاولة أخيرة للنّجاة، بقوله: "يصنع من جسده بابًا للحياة.. تقفله الخيبات بدبابيسها الدّبقة يظنّ جرحه الخريف المتساقط بين النّسيان.. يلبس قلبه ثياب العمل، تعود عينيه من جولة السّماء، ثم توقّع في الدّفتر اليوميّ لصيانة الشرّ، كانوا يحبّون الشّمس حتى تبنّاهم الجحيم".
حزن عميق
"لا أدّعي الحزن، فهو طبيعة بلادي! لا شيء فوق الحزن سوى ضحكة الأطفال.. للحزن، للكتمان، للحلم، للوحشة، للشّهداء، للمفقودين، للأشلاء، للموت، للفرح... أسجّل لكم، كلمة: أعجبني! لكلّ هذا الدّمار والأمل.. أعجبني! لكلّ صوت يؤكّد لي أنّكم أحياء، ولم تكونوا جبناء..."
الحزن عميق، بعيد على نحو ضبابيّ، متلاشٍ، ينساب في ثنايا الأجساد العابقة برائحة صدأ الفراق، والمتمسّكة بآخر خيطٍ لها في هذه الدّنيا؛ في مسيرة مقاومتها، مسيرة دربها نحو الحريّة المنشودة، نحو الخلاص، والانبعاث من جديد، في رحلة أبديّة، اجتازها هؤلاء كلّهم بصمت، وقفوا بعزّة، ولم يستكينوا لحظة واحدة، ولم يدخل الخوف قلوبهم، ليمضوا في الدّرب غير المنجزة غير آبهين بشيء؛ سوى البحث عن الشّمس التي وثقوا بها، لأنّها ستشرق عليهم من جديد، ليرحل الدّمار إلى غير عودة، ويشعّ الأمل في العيون مرّة أخرى، فينهضوا من رقدة العدم.
جحيم أبديّ
وحده الفراغ يمسك بتلابيب المكان هنا في هذا العالم المترامي الأطراف، والممتدّ بحزنه حتى اللانهاية، لأنّ الشّوارع مقفرة إلّا من جثثٍ، وبعض من رائحة الشّحوب التي باتت عنواناً لكلّ هذا الخراب، فالنّوافذ أيضًا صارت تطلّ على القتل، والجّحيم يمدّ أصابعه، ليقبض على جمر الغياب، ويرسل تلك الأنفس إلى حتفها، حيث اللاعودة، وحيث تكون النّهاية جحيمًا لا يطاق، كبيرًا بحجم مأساة وطن، وألم شعب، يقول: "النّافذة تطلّ على القتل، الشّحوب مكياج دمشق الدّائم، الشّوارع الفارغة من الوطن، جحيم سوريّ" تحوّلت فيه مدينة دمشق إلى مقبرة؛ بعدما نال الدّمار من كلّ شيء جميل فيها، ووصلت أصوات الرّصاص إلى كلّ شارع، وركن قصيّ فيها، يقول: "إنّها مقبرة جماعيّة لجثثٍ تمشي، وهي متّهمة بالحياة.. إنّها مضيق سياحيّ لسفن اليباس القادم إلى عيوننا.. إنّها دمشق". يتمنّى بعد ذلك الرّحيل هو أيضًا برصاصةٍ طائشة، أو حتى محكمة، المهم عنده هو الخروج من هذا الجّحيم الكبير، وصون عينيه عن رؤية بشاعة الحرب ومآسيها، يقول: "أيّتها السبطانة البعيدة! سددي نحوي.. أرجوك!" فهناك حيث اللعنة تطارد الجّميع، وتكتب على أرصفة الشّوارع، وفي عيون المارّة ذكرياتها المتعبة مثلها، فهناك قبور دائمة، ومن دون تمييز بين أحد؛ إذ لا فرق بين الحياة والموت، أو بين الأحياء والأموات، فالمقابر باتت واحدة، وفتحت ترابها لاستقبال الوافدين، يقول في نصٍّ له: "هنالك قبور للأحياء، وأخرى للذين سيولدون، لا يحلّها الموت، فهي مساكن لانتظار الأمنيات، وصور للمهجة المؤجلة".
رحيل أبديّ
"هل نسجّل مكالمة هاتفيّة للحبيبة قبل الرحيل؟ أم نلتقط لها صورة وهي تقف قرب الصرّاف الآليّ لتسحب كلّ أحزاننا، وتشتري لنا بها عملةً صعبة من الضّحك!" حين لا يعود للوجود طعم، وتختلط الهموم مع بعضها، لن تجد الرّوح إلا المنفى سبيلًا أخيرًا للهروب من الواقع الذي فرض عليها ذلك، لتبقى تعيش انكساراتها وحدها، ومن دون أن يكون هناك من يقف إلى جانبها في حادثة نزفها الحبّ على الطرقات، استعدادًا للرحيل، وإسدال ستارة العمر على اللحظات الأخيرة لها في وطنٍ مزّقته الطعنات، وتركته في صراعٍ أبديّ مع الأمل الذي طال انتظاره على أبناء الوطن.
"قبل أن تمتلك الأرض" - يوميّات شعريّة لعمر الشيخ، صادر حديثاً عن دار نينوى للدّراسات والنّشر والتّوزيع عام 2019، ويقع في 136صفحة، من القطع المتوسط. ويقع في قسمين؛ القسم الأوّل قصائد، وتقع في 86 صفحة، أمّا القسم الثّاني فهي نصوص، وتقع في 50 صفحة. ويشار إلى أنّ جميع القصائد والنصوص الواردة في هذا الكتاب يجمعها تاريخ واحد من الوجع؛ وهي أعوام 2011- 2013 تقريبًا.
وعمر الشيخ: شاعر وصحفي من سوريا، صدر له (سمّ بارد 2008- متى أصبح خبرًا عاجلًا 2010- مباشر من جزيرة المونتاج 2014).