لمياء المقدم: لم أحبّ قصائد سيلفيا بلاث وقصيدة النثر تشبهني
الشاعرة لمياء المقدم - إنترنت
- الجمعة 25 كانون الثاني 2019
لمياء المقدم شاعرة تونسية. ترى من الخطأ أن نفكر بالقارئ أثناء الكتابة، تكتب عن الحبّ والجسد بحريّة، ربّما قريباً سنقرأ روايتها الأولى. لا طقوس خاصة لديها لحظة الكتابة، تقول: "أكتب في أي مكان وتحت أي ظرف. عندما أكون في القطار. أكتب على الموبايل. وقد أكتب خلف مقود السيارة، أو واحد من الطفلين يسحب كمي ويجرجرني لأناوله شيئاً، ومرة كتبت نصاً أحبه جداً وأنا أنتظر دوري عند الطبيب".
في هذا الحوار الخاص لموقع "أضواء المدينة" بمناسبة صدور مجموعتها الشعرية الثالثة "في الزمن وخارجه" الصادرة حديثا عن منشورات المتوسط في إيطاليا كانت التفاصيل التالية مع الشاعرة:
ماذا تمنحك قصيدة النثر؟
الحريّة. لا أحب أي شيء داخل القوالب. قصيدة النثر تشبهني لأنها قصيدة فالتة وحرة. أيضاً لقصيدة النثر ميزة أخرى وهي أنها أعمق وأقرب من الوجدان الإنساني، فهي ليست قصيدة مبنية على الصورة بقدر ما هي مبنية على المعنى والدلالة. الجبل والنهر والصحراء لم تعد حقولاً بصريّة كما في الشّعر القديم، بل تحوّلت إلى "حقول دلالية" مع قصيدة النثر.
لعشرين عاما وأنا أبكي بجانب جثتي/ الجثة هرمت أمام عيني/ نبت لها شعر/ رأيت الحب الذي قتلها ينتشر كالدود بين فخذيها/ مت وبقيت جثتي حية/ تراقبني وتبكي،/ تحملني على ظهرها / من شجرة إلى شجرة/ تنتظر أن تسقط على وجهي ثمرة/ أو يطأ قلبي ظل عصفور فانهض/ عشرون عاما، الميت حي والحي ميت/ بقوة الغدر.
في ديوانك الجديد "في الزمن وخارجه" تتعاملين مع مفرداتك الشعريّة ببساطة شديدة من خلال التفاصيل الصغيرة التي تجعلينها محوراً للعملية الإبداعية. هل ترين أن البساطة تبعد النص عن التقريرية المباشرة؟
طرح عليّ هذا السؤال في الديوانين السابقين أيضاً، وأظن أن البساطة والاقتراب من التفاصيل الصغيرة هو ما يميز كتاباتي بشكل عام، ليس فقط الشعرية، وإنّما حتّى في المقالات. غالباً ما يتجه الشاعر إلى القضايا الحياتية والإنسانية والفكريّة الكبرى، اعتقادا منه بأن "الكوني والإنساني" كامن هناك، لكن الحقيقة هي أن الكوني والإنساني كامن في التفاصيل اليوميّة البسيطة وفي الأمور التي تمسنا من قريب. كلّما اقترب الإنسان من نفسه اقترب من جوهر الكون والإنسان بشكل عام. لذلك ألتصق بنفسي وبتفاصيلي البسيطة. وهو التصاق بالوجود في صورته الخاصة، وفي تمثلي الشخصي له، لذلك غالباً ما توصف كتابتي بأنها صادقة، والصدق هنا هو صدق الأحاسيس والمشاعر وصدق التجربة الإنسانية، أنا لا أحاول أن أدعي ما ليس داخلي، لأنني لست بحاجة لذلك. فكلّ فرد، وكلّ تجربة إنسانية هي تجربة فريدة وغنية وملهمة أيا كانت بساطتها. في ديواني الأخير كتبت كثيرا عن "الحديقة" الّتي تحولت إلى عالم شعري شاسع وحقل دلالي وحسي ممتد، مع أنها في واقع الحال حديقة صغيرة جدا وليس بها سوى شجرة تفاح واحدة وشجرة كرز واحدة وبعض الأعشاب. أؤمن بأن الالتصاق بالذات هو ما يأخذنا إلى الإنساني وليس العكس.
أكتب لتراني/ لتعرفَ كم أحبك،/ هكذا تعلمت الشعر/ وربما سأتعلم أشياء أخرى كالتعري في بار مليءٍ بالشحاذين والمقامرين/ من أجلِكَ أشقى/ ومن أجلِكَ أُلقي بالقطعة الأخيرة.
يحضر الجسد والحب في ديوانك الجديد. هذه الجرأة تخشاها الكثير من الكاتبات. خشية أن يتم قراءة نصوصهن كجزء من حياتهن. متى تمارسين الرقابة الذاتية على نصك؟
لا أمارس أي رقابة ذاتيّة على كتاباتي، وعندما يصف أحدهم كتاباتي بالجريئة أستغرب الوصف، لأن الكتابة لا يجب أن تخضع للتصنيف الأخلاقي، كأن نقول كتابة جريئة وأخرى جبانة أو كتابة متمردة وأخرى خاضعة. الكتابة التي تنتج تحت الخوف لا يعول عليها، إلا بمقدار تحايلها عليه ورغبتها في الانعتاق منه. في ديواني الجديد"في الزمن وخارجه" كما في ديواني السابقين "انتهت هذه القصيدة، انتهى هذا الحب" (دار آفاق المصرية 2015) و"بطعم الفاكهة الشتوية" (دار النهضة العربية، بيروت 2007) أكتب عن الحب والجسد بحريّة تامة لأنها من أكثر المواضيع التي يجب أن تكتب بحرية. لا حبّ من دون حريّة ولا جسد من دون حريّة ولا شعر من دون حريّة. الحريّة مطلوبة في كلّ شيء وانعدامها لا ينتج عملاً إبداعياً. وجودي في بيئة غربية وانعدام الرقيب السّياسي والدّيني والاجتماعيّ والأخلاقيّ على كتاباتي منحني هامشاً واسعا من الحريّة، إضافة إلى أنني أميل إلى الاعتقاد بأن الحرية قيمة إنسانية تولد مع البشر مثلها مثل الصدق والنبل والكرم وغيرها. بعض البشر يظلون أحرارا حتّى داخل السجون، لأن الحريّة نابعة من داخلهم.
حياتي ثرية وفاتنة/ من أجل أن أستر عورتها اقتلعت غابة/ ولأملأ عينيها باللمعان، وثغرها بالأحجار النادرة أفرغت البحار/ أقف على رِجْل واحدة بالساعات من أجل ضحكة صغيرة منها/ لتتعلم التفكير أضيع في مفترق الطرقات/ ولتعرف الحكمة، أتعلق بحافة جبل منذ مائة عام/ لكنّها مؤخراً كسرت رجلها في معركة مع قط بائس/ اضطررت لبيعها لعابر سبيل قال إنه سيكلفها بنقل الماء إلى قبره بعد أن يموت/ راقبتها من بعيد تعرج خلفه محاولة اللحاق به/ وكان ذلك آخر عهدي بها.
قصيدتك تتمسك باليوميّ والمعيش والشخصي. هل هذا ما يعطيها فرصة التحرّر من الّلغة واكتشاف العالم من حولك باكتشاف أشيائه البسيطة؟
الّلغة أداة لنقول من خلالها ما نرغب في قوله وليست هدفاً، ولو أتيح لي أن أكتب قصيدة بأداة أقل حضوراً وتعقيداً من الّلغة أو من دون أداة على الإطلاق لفعلت. الّلغة مهما كانت دقيقة ومتقنة إلا أنّها تنقص من الشّعر إن شئت، لأن كلّ أداة ناقصة. وهي تحول دونه أيضاً. لأنّها تقف بيننا وبينه. الشّعر أكبر وأوسع من الأداة الّتي تصوغه، لذلك فالشعر ليس فقط ما نكتب. الشّعر ما نشعر وما نسمع وما نقرأ وما نأكل وما نقول لبعضنا البعض، وما نصمت عنه، وما نرى. هو تمثل وكينونة كاملة وليست الّلغة سوى وجها من أوجهها.
الشاعر ليس وصياً على الحياة ولكنّه يكتب نصه ليرى العالم من خلاله. هل الحبّ موطناً بديلاً لك؟
لا أحد بوسعه أن يعرف لماذا يكتب الشّاعر؟ الشّاعر يكتب ليدل عليه تماماً كما أن الشجرة تثمر لنقول عنها شجرة تفاح أو كرز. هو يكتب نصه ليعكس من خلاله ما يراه ويحسه من العالم. لا وجود لمكان موضوعي أو زمان موضوعي. كلّ شيء يحدث داخلنا، ونحن نكتب من زمننا الداخلي ومكاننا الداخلي ما نعتقد أنه ينطبق على الكل. فمثلاً لو جلس أحدهم على ربوة عالية ليراقب الغروب خلف البحر. فالربوة لا تعني له شيئاً والزمن عليها أيضاً لا يعنيه، هو موجود بحسه في مكان آخر وزمن آخر. الكتابة عن الربوة في هذه الحالة خطأ، لأنها غير موجودة داخل الشاعر وإنما خارجه. شيء هامشي لا يعني الكثير إلا بمقدار ما يسهله من استشراف على المكان والزمان الحقيقيين (الحقيقة الذاتية). أحب الكتابة الّتي تنبع من الداخل. الحبّ يمنحنا القدرة على جعل الداخل والخارج يتوافقان. عندما نحبّ نسير في خط متواز مع أنفسنا، مع زمننا ومكاننا، نتوحد ونمتلأ ولذلك فالحبّ ليس وطناً. الحبّ كون بكامله.
الأمومة. هل لها تأثير على تجربتك الشعرية؟
قبل الأمومة كانت علاقتي بالعالم وبما حولي علاقة بنوة، أي إنني كنت اشعر بأنني ابنة كلّ شيء: الشجرة والنهر، والمدرس والجار والطبيب وهي علاقة استنزاف دائم للاهتمام والحب. وكنت أكتب من هذه المنطقة، من الحاجة والنقص إلى الآخر إن شئت، وليس بوصفي معادلاً وندا له. بعد الأمومة، اعتقدت أنني سأتغلب على هذا النقص أو الاحتياج الدائم للمحبة، لكن ما حدث في واقع الأمر هو أن الفم الذي كان مفتوحاً على الدوام أصبح ثلاثة أفواه. ازددت خوفاً وغربة لأنني بدل من أن أعيش كمظلة محيطة بالطفل الذي أنجبته، عشت فيه. كان داخلي فأصبحت داخله، وبدل من أن أسحبه إلى عالمي سحبني إلى عالمه. كتابتي في هذه الفترة كانت بإحساس طفل وتمثله للعالم. فيها الكثير من الدهشة، والبساطة والرغبة في الاكتشاف والتجريب، كما أنها كتابة تبحث عمن يحتضنها، عن يد تمسك بها وتربت على شعرها. من يقرأ نصي يحس أن شيئا مطلوباً منه غير القراءة، شيء أبعد من القراءة: ضحكة مثلا، أو لمسة ود.
إلى أي مدى يشغلك القارئ؟
لا أفكر بالقارئ وأنا اكتب، وأظن أنه من الخطأ أن نفكر بالقارىء أثناء عملية الكتابة، لأننا ساعتها نقوم باستدعاء احتياجاته في كتاباتنا. الأفضل أن نكتب من احتياجنا نحن. بعضنا يكتب لأن الكتابة تكمل نقصاً ما لديه. هناك من يكتب ليرى من قبل شخص ما. هناك من يكتب ليصرخ وهناك من يكتب ليتنفس وهناك من يكتب للكتابة نفسها.
هل حبك لقصائد سيلفيا بلاث. كان السبب الرئيسي لترجمة رواية "أنتَ قُلتَ" للكاتبة كوني بالمن؟
لم أكن أحب قصائدها كثيراً. أحب على سبيل المثال قصائد "آنا اخماتوفا" و"شيمبورسكا فسيوافا" أكثر، لكن ما يميز "سيلفيا بلاث" هو حياتها وعلاقتها بزوجها الشاعر الانجليزي "تيد هيوز". والحقيقة أن عدة عوامل موضوعية وشخصية تظافرت من أجل ترجمة "أنتَ قُلتَ" فبعد فوز الرواية في نسختها الهولندية الأصلية بأعلى جائزة أدبية في هولندا هي جائزة ليبريس للأدب، قرأتها وأعجبت بها على الفور، ثم التقيت صدفة بمؤلفاتها الكاتبة والفيلسوفة الهولندية المعروفة "كوني بالمن" في إحدى الندوات، وعندما عبرت لها عن رغبتي في ترجمة الرواية، لم تسألني عمن أكون أو عن عدد الكتب التي ترجمتها في السابق أو عن خبرتي في الترجمة الأدبية، وافقت على الفور وشجعتني بقوة.
الأسباب الشخصية تتمثل في إحساسي بأن خيطاً رفيعاً جداً يربطني بالشاعرة "سيلفيا بلاث" هو ليس خيط الشعر على أي حال، لكن هناك تقاطعاً مريباً بين حياتي وحياتها في بعض جوانبهما.
"أنتَ قُلتَ" كانت أول ترجمة ادبية لي والحقيقة أنها كانت تشبه الاكتشاف، ولَم يكن لدي أي خطة للاستمرار في الترجمة، لكن نجاحها والاستقبال الذي حظيت به من القارئ العربي شجعني على دخول المغامرة مرة ثانية من خلال رواية "مالفا" للروائية والشاعرة الهولندية "هاخر بيترز"، والتي تتناول قصة حياة "مالفا" ابنة بابلو نيرودا الّتي ولدت مشوهة بمتلازمة الرأس الاستسقائية وتكتم نيرودا على وجودها إلى أن توفيت في عمر 8سنوات، وهي رواية حاولت الكاتبة من خلالها تعرية شاعر الانسانية والثورة بابلو نيرودا من القيم الزائفة التي ادعاها ونادى إليها في أشعاره.