الجمعة 22 تشرين الثاني 2024 | 8:4 صباحاً بتوقيت دمشق
عبد المجيد محمد خلف

رغبة الانعتاق في "ليس للأرض باب، وسأفتحه" لـ سنيا الفرجاني

رغبة الانعتاق في
غلاف الكتاب
  • الخميس 4 تموز 2019

أبواب كثيرة موصدة في وجوهنا، نحاول كل ما أمكننا فتحها، لنتخلص من المعاناة والهموم التي نعاني منها، وتدخلنا في دوامة الحياة وصراعاتها التي لا تنتهي، وجودنا رحلة محفوفة بالمخاطر، ودروبنا مليئة بالآلام والأشواك، ودونها محاولات الانعتاق منها، لنبلغ الحرية التي ننشدها، ونركن؛ ولو للحظة إلى السعادة التي نقضي كل وقتنا بحثاً عنها في تلك الدروب، ليكون ثمن ذلك البحث الكثير من الدموع والدماء، ولكن عندما يتم الاعتراف بأنه ليس للأرض باب، وتكون هناك رغبة عارمة لفتحها؛ فذلك هو جزء من العطش الروحي للإنسانية التي تنتمي إليها الشاعرة التونسية "سنيا الفرجاني"، وجهودها الحثيثة في فتح ذلك الباب؛ حسب ما لاحظنا في ديوانها "ليس للأرض باب وسأفتحه" دار زينب، تونس.
تحاول الشاعرة كل ما أمكنها في ديوانها الشعري، وقصائدها أن تستفيد من السرد في كتابة كلماتها؛ التي تأتي كحالة متوازية للسرد تماماً، فلا نكاد نلحظ اختلافاً بينهما في طرق باب اللغة، والنهل منها في طرح المفردات، وإلقائها بين يدي القارئ الذي يلمح ذلك بوضوح، لتغدو القصائد قصصاً تحكى، وتطرح حكايتها للجميع، ويظهر ذلك جلياً في الكثير من قصائدها، ونذكر منها:" أمطار غزيرة تنزل خارج الخارطة- الأحلام المقتلعة- ليل أصفر- فقدت أصابعي" وغيرها... فنجدها تقول في قصيدة فقدت أصابعي: (ليس لي يد، أصابعي فقدتها، وخسرت ساقيّ، أحتاجها لأسير إليك بمصباح خافت، تتبعني خفافيش صغير ة بلا أبوين، ودخان بخور آلهة نامت، ونسيت نجومها مطفأة، أحب أن أعيد إليك العالم المؤجل، سرّاً أعرفه، وأخفيه بشعري).
هاوية الحزن
"داخلي فنادق ونزل حزينة، أسرّة مهترئة خزّنها أهلي وخرجوا، ستائر عليها طواويس ونقائش بألوان متوقّعة،... طاولات دائرية محفورة، وفتات خبز". يمضي معها الحزن أنّى ذهبت، ليكون مصيرها المنتظر، وقدرها الذي لا يرحمها، ويذكرها بكل شيء امتدت إليه يده في زمن ما، ليرسم بريشته صورة بائسة لها، ويتماهى معها في كل واحد، لتصبح هي والحزن كلّاً واحداً، لا فرق بينهما، وليكون عنوان أيامها، يسكن روحها وقلبها، وتظهر ملامحه في عينيها، وتقاسيم وجهها، لتتحول تلك الروح، ويتحول ذلك القلب إلى مأوىً له، ويوسم حياتها الباقية، وأيامها القادمة بميسمه الخاص.
بين يدي الوحدة
وحده العشق مَن يعرف السبيل إلى قلبها، مع الحزن الذي افترش دروب حياتها، ليزيد من معاناتها، وشقائها، بتفاصيله التي تذكرنا به الشاعرة، في الساعات التي تقضيها في ذلك العشق، الذي يمعن مثله مثل الألم والحزن في تعذيبها، فالفراق، الهجر والسفر، لوحات تكمل بعضها البعض في تراجيديا حياتها، لتثقل كاهلها بأوجاعه الأبدية، وتعاسته، لتقضي لحظات عمرها الباقية تعاني من الوحدة التي تنغص عليها عيشها، وتمسك بتلابيب روحها المتألمة، وتتركها في مهب الضياع والخوف بسبب تلك الوحدة، التي لم يقتصر تأثيرها في الشكل الخارجي لكلماتها، بل في البنية الداخلية لها، وفي نفسها أيضاً، وتترك آثاراً عميقة، وجراحاً لا تندمل، لتسرد لنا الوضع التي آلت إليه بعد ترك عاشقها لها، وهجرانه، وبعده عنها، ليتحول جسدها إلى ظلّ يتجول في أركان البيت؛ لعله يجد أي شيء يتسلّى به، ليخلصها من الوحدة التي ألمت بها، وشعورها القاتل، والتي حولتها إلى بيت مهجور لأشباح مثلها: "تركتني وحدي، ألتهم أشباح البيت المهجور... سأشرح للوسادة المنسية خلف التلفاز أسباب نحافتي، وأسباب سقوط الريش عن الزرابي، سأبدل لون الجدار، وقماش الأريكة".
لغة مأنوسة
تعتمد الشاعرة في ديوانها، وجميع قصائدها على لغة مأنوسة، قريبة من لغة الحياة اليومية، وتجعلها طوع رغبتها في البوح عما يعتمل في صدرها من مشاعر وأحاسيس؛ جاءت متناغمة مع الموقف الشعري أولاً، وناقلة كل ما تشعر به تجاه هذا الواقع؛ الذي لم يبقِ على شيء إلا وامتدّ له بيده، وبأصابع من خراب، هدمت المرايا والمظاهر الجميلة التي كانت من المفترض أن يعيشها الإنسان؛ في أجواء شاعرية وحالمة، لكن يبدو أن رغبة الموت وقوته أقوى من الأسلحة التي يدخرها الإنسان لمواجهته، لأنه لا يواجهه إلا بمحاولة التظاهر بالسعادة، والهدوء، والحبّ، الذي لا يملك غيره كأداة للتغيير، ومواجهة الواقع، فكانت اللغة المأنوسة، والبوح والهمس وسيلة الشاعرة في التعبير عن كل ما تعانيه، وتشعر به، ونلاحظ ذلك في قصيدة لها بعنوان: (أتبادل الألوان مع الأرض)؛ إذ تقول فيها: "لا أحد يطلّ على موكبي، ولا أطلّ على أحد، أتبادل الألوان مع جهة من الأرض عتيقة، أسلّمها بياضي الحاد، وحفنة الأقلام الخشبية، باردة كأصابعي، آخذ منها التماعاً أصلياً، وأسدّ به منافذ الزجاج فيّ، فأصير حياة لا يحصّنها التوت ولا دوده".
الرغبة في العيش بصمت
وحدة تتوسّد الطريق، وأبواب كثيرة مغلقة تقف ممعنة في تعذيبها، ورغبة كبيرة في أن تبلغ ذلك المدى الذي وضعته نصب عينيها في الحياة، وهي أن تعيش بصمت، منزوية عن الواقع الذي يحيط بها من كل جانب، ويسبب لها بحرائق كبيرة في قلبها الكسير، الذي يتشارك مع الورود في أسباب السقوط في الهاوية، والاقتراب من الرحيل والموت، الذي به ينتهي الوجود، ونقترب من دائرة العدم، ويصبح مصيرنا الذبول، أو العذاب اللانهائي كفراشة الشعراء، لذلك نحتاج إلى الشعر، لنعبر به عن معاناتنا، عن شوقنا للخلاص من الحرائق التي تحرقنا بلهيبها ونيرانها: "يحتاج هذا الشعر المدخَّن، يدك، لينفض عني الحرائق، وأحتاج دبال الأصيص اللولبي، لأشرح لك، ذبول الوردة، في الحدائق المعلقة".