الخميس 21 تشرين الثاني 2024 | 2:34 مساءً بتوقيت دمشق
ياسر اسكيف

الشعرُ لقيطٌ لا يريده أحد

الشعرُ لقيطٌ لا يريده أحد
فاليري كوشليكوف (1962) فنان روسي.
  • السبت 1 حزيران 2019

أظنها حقائق إلى حد ما:
حتى المنابر التي تعنى بشؤون الشعر تبدي تحيّزاً للدراسات التي تتناوله على حساب النصّ الذي يمثله. والكلّ يعرف بأن أغلب المنابر الثقافية تتمنع وتتدلل حينما يتعلق الأمر بنشر النصوص الشعرية، وهي غالباً، إن نشرت، غير مدفوعة الأجر، أو أن أجرها رمزيّ. كما أنّ دور النشر لا تغامر أبداً في طباعة أي كتاب شعري إلا على نفقة الكاتب، وإن حدث غير ذلك فإنما لشعراء نجوم، لهذا السبب، أو غيره، تضمن أسماؤهم مبيعاً لا يوقع دور النشر في الخسارة. لأن الشعر بكل بساطة، وبكل سوقيّة في التعبير، غير بيّاع.
يضاف إلى هذا انطباع يشير إلى أن الشعر غير مقروء، ليس بالنسبة للعامة فحسب، بل للشعراء أنفسهم. كتّاب الشعر لا يقرأون الشعر، بعضهم بدعوى تجنّب التأثر بتجارب الغير، والحفاظ على نقاء تجربته، والبعض لأن تجارب الآخرين برأيه لا تستحق أن يبذل أي جهد للاطلاع عليها، والبعض بداعي عدم توفر الوقت. نعم عدد لا بأس به من الشعراء المصنفين كنجوم وأعلام وظواهر اعترفوا في أكثر من مناسبة بأنهم لا يقرأون الشعر.
ما الذي يجعلُ من الشعر كلب الأدب الأجرب إلى هذا الحد؟!
هل لتحوّل غالبيّة من يمتلكون وسيلة تعبير وإذاعة إلى شعراء هو المسؤول عن الحال الذي آل إليه الشعر؟!
حينما كان الشعر صنعة كان الشاعر نجماً بصفته ناطقاً رسميّاً باسم من يمثلهم.
الشعر، حسب تصنيف الكتّاب لكتابتهم، بات اليوم أيضاً صاحب دور وظيفي يتجلّى بكونه ساعي بريد الأحاسيس. وما زال الشعر ناطقاً رسميّاً باسم كاتبه.
من بين كل أصناف الأدب والفنون يتميّز الشعر بالصفة المنسوبة لمُنتجه (شاعر) التي يمكن أن يتمتّع بها أي انسان. إنها تصدير الشعور وإذاعته شفاهاً، أو عبر التدوين.
الراوي، المسرحي، الرسّام، المصوّر، الممثل، المُخرج، ...، مهما بلغت درجة الخصوصية والذاتية في أعمالهم فإنها تميل إلى العموميّة، وإلى الغيرية في القصد. بعكس الشاعر الذي تكون الذات منطلقه ومستقرّه، حتى وهو يرسم بالكلمات.
هل ممارسة الشعور، أو القيام به، نوعاً أدبيّاً، بمجرّد إذاعته، أو تدوينه؟
لا أظن بأن هذا تبسيطاً للأمر، أو تسخيفاً له. بل التبسيط هو أن يظنّ أحدهم بأن للشعر رسالة تبشيريّة، أو بعداً رؤيوياً، أو تنويريّاً، وبأنه أداة لتغيير العالم!! مقابل أن يكون عيشاً شخصيّاً وشديد الخصوصيّة يتراءى للآخرين عالمَاً لغوياً.
الشعرُ لا يؤلَف، والشاعر ليس مؤلّفاً. على عكس كلّ الأشكال الأدبية والفنيّة الأخرى التي يكون للصنعة فيها دوراً كبيراً، وللحِرَفيّة ِ دوراً أساسيّاً (الرواية- القصّة- المسرحيّة- اللوحة التشكيلية- الصورة الفوتوغرافية-الفيلم السينمائي....) ولهذا يتراءى للكثيرين بأن الكون شاعراً هو أمر لا يحتاج إلى أيّة مهارة أو موهبة. وبالتالي كثر الشعراء وندر الشعر. أي ندرت الكتابة الجديدة التي تعرض باللغة تجارب شعورية غير مسبوقة الحدوث.
وبالتالي تحتاج إلى مُفرداتٍ وبلاغة غير مسبوقة الوجود.
ما نقرأه اليوم في كمّه الأعظم، بما في ذلك ما اصطلح على تسميته شعريّة الحرب، هو فلترة للشعور وتصديره مُصنّعاً ومُعلّباً بطريقةٍ لا تخالف الشرائع ولا تخدش الحياء العام. وهنا لا أتحدث عن الافتراض، الذي يطال المشاعر والأحاسيس، عبر فبركتها وتصديرها باردة وجافّة. وهو ما يمكن تحسّسه دون عناء.
ولأنهُ سيّد الفنون، كان، وما يزال. فالشعر مظلّة واقية وحامية يلجأ إليها ما هبّ ودب من الكتابة التي لم تجد من تنتمي إليه وتنتسب. كتابة في كمّها الأعظم لا تتعدى التحويل الحرفي للمشاعر إلى مصفوفات لغوية، أو انتحال لغوي لمشاعر شديدة العمومية. هذه الكتابة التي لا يقبل منتجوها بأقل من نسبتها للشعر، على أن كلّ ما ليس له تصنيف أدبيّ، حسب القواعد الناظمة للأجناس الأدبية (نثر-شعر) وللأنواع التي يتضمنها النثر، يمكن أن ندعوه شعراً، ثم نتبع التصنيف بنوعية محدّدة لهذا الشعر (قصيدة نثرية- قصيدة الكترونية-كيميائية- بيولوجية.... إلخ)، على أن الأمر هنا يجوز كما يجوز القول: رواية بوليسية، رواية خيال علمي، رواية تاريخية، وحاليّاً رواية رقمية.... وكما نرى فالاختصاص هو الفيصل هنا، وليس النمط الأدبي، أو الشكل الفني، أو السمات والخصائص المُميّزة الجامعة للانضواء في إطار النوع. وهذا ما يستحيل في حالة الشعر فالوظيفية في الشعر كانت المديح والرثاء والهجاء والوصف والحكمة...... إلخ. أي أنها الأغراض التي لم تؤثر يوما ً بتمايز موضوعها على البنية الفنية الشكلية للشعر. تماما ً كحال الرواية. وما حدث من خروج أصطلح على تسميته بقصيدة النثر (كجنس أدبي جديد، وليس كنوع ضمن جنس الشعر) التي هي تسمية مأخوذة من ثقافة أخرى مختلفة تماماً فإن علاقتها بالشعر تتعلق بأفعال الشعر وما يخلّفه من آثار في ساحة التلقي، وبهذا تتقاطع مع أفعال وتأثيرات الكثير من الفنون وأنواع الأدب. وبالتالي فهذا التأثير ليس حِكراً عليها ليكون لها حق الاحتفاظ بالنسب، ولو كان نسباً يسيء إليها أكثر مما يرفع من شأنها. فالقصيدة ترتبط دون فكاك بالشعر فما الذي يفعله النثر هنا إذا؟ ًهذا المخلوق النغل، وهذه التسمية المخاتلة، التي تشير إلى عدم وعي الذات الكائنة ككتابة جديدة ومتميّزة عن كل ما عداها من الأنواع الأدبية، ما يرقى بها إلى درجة الجنس الأدبي، وليس النوع الذي يتسوّلُ نسبا ً وانتماءً، الأمر الذي فسح بالمجال لكل قول أن ينسب نفسه إلى الشعر، وكأنما الشعرية أيضاً بالنيّات!