الخميس 21 تشرين الثاني 2024 | 6:48 مساءً بتوقيت دمشق
كمال شاهين

هاني نديم: بدأ الشّعر بمزحة... وسيبقى كذلك!

هاني نديم: بدأ الشّعر بمزحة... وسيبقى كذلك!
الشاعر بعدسة: عبادة جاموس.
  • السبت 1 حزيران 2019

كان شوبنهاور يقول: "عندما لا يقلقني شيء، فإنّ هذا بالذات ما يقلقني"، هكذا تبدو النظرة الأولى، المحايدة إلى حد ما، أي القلق، لما يكتبه "هاني بحبوح" الشاعر السوري الذي منع، ربما قصداً، كنيته عن مرافقته في مصيره الشعري لسبب ما، فكان اسم والده "نديم" نهايةً مؤجلة وبدايةً دائمةً لرحلة أنتجت حتى الآن خمس مجموعات شعرية وعشرات المشاركات المحلية والدولية وحضوراً مؤثراً في المشهد الشعري العربي والسوري تحديداً في عقده الأخير.
أصدر نديم ديوانه الأول بعمر السابعة عشرة، تحت عنوان لم تذكره صفحته الرسمية على موقع "ويكيبيديا" ولكنه في حديث الخاص لـ "أضواء المدينة" يبرر ذلك عند سؤاله عن كيفية تورطه بارتكاب الشعر أن الأمر كله بدأ "مزحة، وانتهى كما ترى الآن مزحة". ولا يختلف تعريفه الجديد هذا عما سبق وقاله في حوارات أخرى أن "الشعر حيلةُ المكسورين الأكثر كبرياء، حيلةُ البواشق حين تقع في الفخ"، وعلى هذه الحيلة كتب مجموعاته الشعرية: "متحف الوحشة" و"الدم قراطية" وآخرها "كونشيرتو الذئب" الصادر عن دار نينوى، دمشق 2019.
شعر مؤجل
إلى اليوم، ما زال القلق صنو قصيدة هاني نديم، مستعيناً بالصبر عليه في قضائه مصيراً شعرياً، معلناً بوضوح، قادهُ في جلجلة لا تنتهي متصاعدةً في ذرى جبال القلمون السورية حيث ولد هناك (1972) في النبك "الأعلى" التي "يخجل تواضعاً" وهو يتحدث عنها ويجزم "أنها مكان أسطوري جغرافيةً وتاريخاً وشخوصاً ومرويات وأغان"، ويدين "لها بالكثير من لحم أكتاف مخيلتي وذاكرتي ولغتي ومخزوني البصري والشعبي". وحيث ما زال يغطّ هناك كلما سمحت له رحلاته التي قادته إلى أعمال إعلامية كثيرة في عدة مؤسسات عربية ودولية، ورغم كل هذا الاشتغال الإعلامي إلا أنه لا يعرف نفسه إلا بكلمة "شاعر"، تلك الكلمة تلتصق بهاني فعلاً حيثما وأينما تحرك.
يعترف هاني أن رحلته الشعرية بدأت بمزحة سببها تورطه المبكر "في لعبة اللغة والشعر والمرويات والشفهيات والعتابا والميجانا والمواويل التي نتلقفها في شتاءاتنا القاسية على رأس الجرد القلموني"، ذلك المكان بزمانه الطويل "كان لا بد لأهله من ترفيل وتصديف وتطريز حكاياتهم"، ولأن عالم الشاعر دائماً ما يكون داخلياً نوعاً ما "كنت أستمع باهتمام شديد إلى كل حرف وصمت من حولي".
الحادثة التي لعبت دوراً مفصلياً في حياته كانت لقاؤه طفلاً مع الشاعر الكبير "عمر أبو ريشة" في منزل أحد أقاربه حيث عامله معاملة خاصة وأهداه مسرحيةَ "الحسين" موقعة (وهذه بالمناسبة للشاعر أبو ريشة)، يقول هاني: "قلت لنفسي حينها وأنا أرى سمته وأناقته وهيبته، واحترام الآخرين له: أريد أن أصبح شاعراً".
لجبال القلمون في الذاكرة السورية الجمعية صورةٌ تربطها بالذئاب الجبلية والرمل الأبيض ـ الأسطورة ـ ونادراً ما خرجت "النمورة النبكيّة" الشهيرة إلى الشعر، أو إلى عالم الإبداع، تلك واحدةٌ من المفارقات السورية الكثيرة الأوجاع، يقول هاني إن في تلك المناطق حياةٌ أغنى من كثير من الإبداع، "هناك سيالة اجتماعية إن جاز التعبير، إذ أن الضابط الاجتماعي المحكم بالأب والعم والخال والجار، إلى جانب سطوة "جاهة" أبي فلان وهيبة أبي علتان من أصحاب "المونة" والعقل الحكيم؛ أوجدت حلولاً منطقية لمثل تلك المخالفات البريئة والجميلة.
القلق... سفيراً
ينمو القلق في نص هاني نديم، كأحد عواميد نصه الأساسية، مضيفاً حياة وراء الحيوات التي تمشي فيها السردة الشعرية خاصته، فليس كل الوجود "خيراً متحققاً" بقدر ما هو مشيٌ على صراط الشعرية تقوده عمليات ترتيب النص "الأرسطية" نفسها، فلا يخلو نص للشاعر من (الوقع، والقول الشعري والمشهد) وإن كانت أحياناً تُتْعبُ النص في رحلة ارتقاءه إلى النهائية في ظل غياب أثير "للتجريدية المؤطرة" عموماً لقصيدة النثر الحديثة.
يكتب الشاعر نصه بتقنية تجمع الذاكرة الجمعية السورية (وليس القلمونية الأثيرة لديه فقط) مجموعةً مع عناصر أقل كثافة لغوياً لكنها أكثر حضوراً جماهيرياً معتمداً على لغة شعرية مفارقة تجعل المتلقي "يمط رأسه" بحثاً عما وراء جدارها، لنقل إنه يلعب مع اللغة بجهد الذئب في معركة في جبال جرداء، لكنه، كما يقول في حديثه معنا، لا يخطط لما يكتب بمعنى "الماكيت والكروكي" وليس هنالك بينه وبين الشعر أية مواثيق يتبعها، فهو يكتب "دون الالتفات إلى الأنساق والمناهج النقدية"، يكتب "بحرية تفاجئني حتى أنا مرات، وأجرّب بقلب شجاع أشكال وأنماط كثيرة، أنجح وأفشل وأشطب وأعيد" حسب وصفه.
ما يؤكده الشاعر أنه في "مشروعه الشعري" ثمة سمة مؤكدة هي "التخفف من اللغة "المتشاوفة" المتعالية على القارئ والتفلّت من الاستعراض اللغوي، مع عناد ومكابرة بأن لا "تتغرب" قصيدتي شكلاً ومضموناً عن الجرد والذئاب والمواويل والحكايا الشعبية التي تخطف القلب، متواضعة من الخارج فخمة من الداخل تماماً كمثال "الويسكي المسكوب في كاسات الشاي".
يُكثر الشاعر من الاتكاء على الذاكرة والموروث في نصوصه، وهو ربما ما يبعد المتلقي أحياناً عن الالتقاء بجوهر النص بحكم المحلية المغرقة في تفاصيلها، كما أنه وبكثافة أيضاً يستعير النص المقدس (القرآني) في نصوصه الشعرية بما يمكن تسميته من جانب "بالذكاء الشعري" المتكئ على ما يقبله الجمهور، وهذه الاستعارات تسجّل حضوراً كبيراً في تفاعله المباشر مع جمهوره، سواء على صفحته الشخصية على موقع "فيسبوك" أو عبر قنوات أخرى، ولكنها، بقدر ما هي لعبة شعرية قديمة مرغوبة فإنها قد تؤخر تطور مشروعه الشعري خارج سماته التي انطلق منها.
ليس في شعر هاني نديم "أدلجة" ولا حوامل فكرية يقيم عليها سردياته، بالعكس، نصه المنتشر هو عالمٌ بسيطٌ ومشغول بهموم البسطاء من الناس "هؤلاء هم نصوصي، إن حزنوا حزنت وإن غضبوا غضبت وإن فرحوا غنيت لهم" حسب قوله، مضيفاً: "قل لي ماذا تكره أقول لك الأدب التوعوي والتعبوي وشعر المناسبات السعيدة! كأن تقرأ في رواية عظيمة عبارةً لكاتب شيوعي عظيم يقول فيها: (والتقى الحبيبان وتعانقا بينما كانت الشمس توزع ضوئها بالتساوي للجميع!)، لا يمكن لفن عظيم أن ينهض دون حوامل أيدولوجية أو جمالية أو إنسانية، بكل تأكيد، ولكن إصرار الكتّاب على "دحشها" في أنف قرائهم يحط من قيمتها. بالنسبة لي أنا أحترم من يقرأ لدرجة أنني أخجل من أفعال الأمر في نصوصي، أخجل حتى من التقرير والجزم، أنا أمسك بيد من يقرأ وأذهب معه أكثر مما أحمله على الذهاب معي".
لا يسلم شعراء النثر على موقع "فيسبوك" من لسان هاني سواء سلباً أو إعجاباً، يعترف الرجل بأن ما يفعله ناتج عن رؤيته "للمشهد العشري العربي" بعد اختناق منصات التواصل الاجتماعي بطوفان "أفرز حالةً خاصةً جداً لم نشهدها من غثاء شعري عام. ولأن نصف الموهوب بالضرورة سيدعم ربع الموهوب حتى لا يكشفه البالغ البليغ. أصبح الكثير من الموهوبين الرائعين خارج اللعبة".
يناكف الشاعر الجميع بحب كما يقول وأولهم نفسه، وعلى الملأ، بخطاب ليّن قاس، يريد أن يقول فيه: "أن ما يكتبه الكثير هو استسهال وتسفيه لفكرة الشعر العظيمة، وخاصة النثر طالما لا شروط لقواعد اللعبة فيه، الأمر الذي أدخل شعيط ومعيط ونطاط الحيط إلى الشعر وأصبح لشعيط دواوين ولقاءات متلفزة وشلل ومهرجانات، وصار لمعيط ملاحظات على السياب ودرويش وأدونيس وهو دون أبسط علوم الشعر واللغة، دون إملاء ونحو وصرف وعروض ودون شعر يا سيدي لا تزعل".
إشارات
حاز هاني على عشرات الجوائز الشعرية العربية وكتب أيضاً في السياسة والنقد ولكنه في بحثه عن معناه السوري تحديداً، وهو الكاره الشديد للحرب وما فعلته في البلاد ـ يصر على كونه معمارياً يحب البناء لا الهدم، يقول: "أنا يا صديقي معمرجي ابن معمرجي ابن معمرجي، فقدت أخي وفقدت أصدقاءً أكثر من أعدهم في هذه الحرب التي تجري وسيوفنا في أعناقنا، يا إلهي كم أكره الحرب!".
يختم حديثه معنا بالقول موجهاً حديثه لنفسه: "يا هاني نديم، لا تشرب ويسكي بكأسة الشاي دوماً. ضع كل شيء في مكانه! الشاي شاي والويسكي ويسكي".


نصوص للشاعر هاني نديم خاصة بموقع أضواء المدينة:

ذئبٌ بذراعٍ واحدةٍ يقضم الليل
"وقصٌ طويل للفرائس، وقصٌ قصيرٌ للأغنيات"
لست شجرةً لتهزّني الريح وتقف على جثتي الأمثال..
أنا حطبٌ!
وضعت يدي عليّ وأنا حطب، مشيت بين الناس وأنا حطب،
عشت ومتّ ونمت وصحوت وأنا حطب
وها..
كلما لمحتُ ناراً أبتسم للسلالة
وأقف إلى جانبها علّها تحتاجني.
**
لم أرَ شجرةً فأعدُّ عليها العصافيرَ وأنظر إلى يدي،
أطعمت كفّي للنار كما سلف..
أنا تحت أنقاض عماي
ما معي إلا الشيحُ
والقفارُ
أنا.. ومن بعدي الأحزان
أنا ابن الجرد،
أرضي مذئبةٌ
ودليلي الغبارُ.
**
لا امرأةٌ لي
ذبحتُ الأنوثة كلها مع أول قصيدةٍ كتبتها
وحييتُ كما يجب؛
ناشفاً كحطبٍ في باله النارُ
بليغاً مثل جرحٍ في وجه فارسٍ مهزوم
لا غارَ نزفُه يوماً
ولا من أعدّهم ليوم كريهةٍ..
أغاروا
**
على الطويل
مشيت من "مجان" إلى البصرة
فعولن، مفاعيلن، فعولن.. مفاعيلُ
يرافقني "نضير بن الشمل"
ويحدونا الخليلُ
إلا أنني ما دخلت سوق الصفارين
والبئر في صحن المنزل كانت معطلة بأصوات الذئاب.
باكراً
زمّلني الموت الزعافُ
فلا الترفيلُ حاقَ بي
ولا الزحافُ
وما أضمرتُ ولا خبنتُ ولا وقصتُ
لكنني بين ساكنيْنٍ رقصتُ
أنا الوافر الحزن
ما همّني على أي بحر وقفتُ..
مثلي، مثل أي غريقٍ
تشغله الضفافُ.
**
أذهب مع الشعر حيث أراد
فمرةً
يولّيني أميراً، ويمشي بعد أتباعي
ومرةً
يصيّرني حصيراً، ويمدّني
تحت أوجاعي
مرةً قال لي: قف هنا، على هذا المنحنى، على هيئة شجرة،
لا يهمّ إن صرت مشمشةً أو زيزفونة، المهم أن تكون لك ظلالٌ بيّنة
ادعُ العصافير
ادعُ الظامئين، العطاشى، المتعبين..
قال هذا... وانثنى
إلا أنني بعد ظليّن
وجدت نفسي نارا
لستُ أكيداً تماماً مِن فاعلها!، مِن هويته أو قضيته
أذكر أن صوته كان حلواً مثل السكّر ومرّاً مثل
صبري
كدتُ أحفظ أبيات العتابا التي غناها،
لولا أنني عند أول "أوفٍ"..
قُتلت بجمري
****
كتبتُ الأغاني الرديئة لمطربي الأعراس وردّات الحنّة للعمّات. كتبتُ عبارات الدرّاجات النارّية لزعران القرية والحكم البلهاء على مؤخرات شاحنات الخطّ بين دمشق ـ عمّان. كتبتُ أناشيد للرعاة وأخرى للذئاب.
كتبت رسائل أصدقائي لحبيباتهم ورسائل حبيباتي إليّ وsms شركات الموبايل لعملائها. كتبت على جدران المراحيض العمومية وجذوع الأشجار الباسقة وفواتير الكهرباء وهوامش كتب الهندسة الفراغية. كتبت على الرقّ المدبوغ والمعي الملدوغ وجلد الغزال وزغب النساء
كتبتُ
على الورق والخيش والهواء، كتبتُ بريشة نسر ملكيّ ومخلب بومةٍ صلعاء. كتبت بقصبٍ من هور عراق السماء، بالزعفران كتبت، وجوز الطيب والحبر الحقير والماء. كتبت حتى تبّت يداي وتبْتُ، كتبت لكنني بقيتُ بلا حكمةٍ.
أنا
وحجر الأرض
سواء
***
أيضاً
أنا "المهلهل" بضفائر النساء وهلاهيلها
و"المتنبي" بحمام الصدر قبل الفجر
وأنا من أهوى. ومن أهوى بفأسه على الرمان في خمسين ألف شفة مما تعدون..
أنا "بابك" الذي خرّم الحبر "الزنجي".
وأنا الصحيحان..
والكامل في التاريخ.
***
قدّمْ لي شجرةً
وخُذْ ظلالي
امنحني سلاماً سأقف معك في الحرب.
أترى كل هذه الأغاني؟
كتبها القهرُ وغنّاها الخائفون
بيني وبينك أغنيتان
خذ واحدةً؛
واترك لي الأخرى..
أيٌ منا هدّه خرسٌ أو جوّعه السكوت
أيٌ منا يخون
يطعمه الآخر من كنز أغنيته،
ويبكيه
كما يبكي حزنَ باب الدار
الزيزفونُ
***
كل يومٍ أكتب الشعر كتمرينٍ يومي على الصمت القادم، الصمت الطويل؛ تلك الهوة الهائلة التي تعدنا بالكثير الكثير من الإصغاء إلى العدم واللاشيء. كل يومٍ أكتب الشعر لأنني أخاف الكلام، وأخاف كذلك من بذاءة الحوار الذي يمدّ رجله المشلولة "يفركشنا" ونحن ننزل الدرج الملتوي نحو قبو نفوسنا المعتم. كل يومٍ أكتب الشعر لأجل حبيبتي فقد قالت لأصدقائها ومرآتها: حبيبي شاعرٌ ومشت على الرصيف وكأنها غيمة تتزين بالرعد والوعد والبحور الناشفة في دائرة "الكامل". كل يومٍ أكتب الشعر لأجل أن: "لا أقول" وأن لا أحيا ما يجب عليّ أن أحياه. وكي أموت كما أحبّ؛ مجللاً بالضفائر ومبللاً بالشبابيك..