"نهر الخرز" لـ ماجدة داري: اللّغة المتكوّمة على حالها
الشاعرة وغلاف ديوانها.
- السبت 1 حزيران 2019
أتاحت الشاعرة السورية "ماجدة داري" للكثير من قرّاء الشعر بالعربية في أمريكا أن يتعّرفوا على أوجاعها وغربتها وحنينها بإصدارها الشعري الأول (نهر الخرز) المطبوعِ في "كردستان" العراق، وقد انتظرتْ الشاعرةُ الكثير من السنوات حتى تجرأت وأصدرت كتابها الشعري رغم عدم يقينها وقدرتها على استيعاب المشهد الشعري السوري و "زحمته" لكن هذا لا يعني أنها جازفت بسنوات الانتظار التي تأخرت كثيراً حتى يظهر الكتاب ويكون بين قراء لا يعرفون الكثير عن "الشعرية السورية" في أمريكا.
وبما أني كنتُ قريباً من تجربة الشاعرة وبداياتها، فقد تابعت شعريتها منذ لحاقها سن التجربة و"الوعي" الشعريين، وقد كنت قبل ذلك قريباً من تخطيطاتها الكتابية هنا وتعثرها هناك، وهي في رحلة كتابية متقطعة، بين كتابة نصوص كلاسيكية دارجة -كبداية- كل ممن يحبون الظهور شعرياً، وبين نصوص حداثية تقترب من روح الحياة الجديدة المعاصرة والمتماشية مع موجة شعرية النثر "كواقع شعري" فرض عليها بحكم تواجدها ضمن سرب من شعراء (عامودا) الذين انجرفوا بدورهم و بعنف لا مثيل له نحو "القصيدة الشفوية اليومية" و جعلوها مختبراً لتجارب قادمة أفرجت عن الكثير من أصوات كانت شاردة وأعلنت صياحها وفرادتها بفم ملآن وأفزعت المشهد الشعري السوري برمته.
قد يبدو امتداد علاقة ماجدة مع المحيط والناس علاقة انفعالية تراكمية يجسدها نشاطها "التخييلي" أولاً وذاكرتها المنشغلة بتوليد دلالات جديدة وإنتاج صوراً لا متناهية من المعايشة -الطفولة، عبر تشغيل "الكاميرا الحسية" التي تراقب بحذر أسرارها ورغباتها من خلال اعترافات مهموسة وبوح خافت لا يكاد يسمع أو يرى.
إن لغة الشاعرة، كما لاحظنا في الديوان، كصوتها وأحاسيسها، خفيضة ومجروحة من الداخل ومتشابكة ومنفعلة من المتن. صوتها، أنين جسدها، إن لم يكن روحها المخاطبة المعلنة، تقول: "يا لهذه الوسادة التي تطن في جسدي/ تظهر حسي الانثوي على مرآة هذا الليل الذي يتربص حركة عيني/ أتكوم كقطعة اسفنج جف ريقها".
ما يقلق في شعريّة ماجدة داري، هو اجترارها للكلمة واستعمالها أكثر من مرة في عملية تكرير أو إعادة شحن المعنى بالكلمة ذاتها، تكرار قد يسّد مداخل الجمل ويشّل النص من الداخل، فلا تعثر على دلالة جمالية إلا بشق الأنفس أو اقتراح خطابية تتوغل من خلالها إلى السياق العام وتحسّن من معالمه، تقول: "ترتجف الستارة/ أحمر يحن لقبلة تمتلكها أنت لفم أمتلكه أنا/ أشعل الضوء الأزرق لأرى فستاني".
كثيراً ما تنشغل "داري" في ملاحقة التعاريف والتشابيه والمتضادات الشكلية في محاولة منها تحريك وتخصيب النص، وتحويله إلى إيحاءات تلقائية بريئة تجتذب مكاشفة صدق ولحظات أمان مع القارئ والأشياء والكون.
تحبك الشاعرة نصوصها بخيوط مختلطة و مرتبكة، عجولة جداً في طرح أفكارها، المبعثرة و المشتتة، لا رادع منطقي بين فكرة بحد ذاتها، لتبدو المعاني مجرد مفارقات لفظية، و ايقاعات مضغوطة بموسيقا عارمة من تدافع المفردات وتصادمها، وأظن مردّ ذلك هو هذا التكثيف والضغط على حامل المعنى كي يؤدي أدواره دفعاً، وهذه مشكلة عامة وقعت فيها الكثير من الأسماء الشعرية الشابة في بداية الألفية الثالثة، تذبذب الوعي الشعري، استدعاء اللغة العالية في غير سياقاتها، تشكيل المشاهد والصور وتلوينها بحالات ذهنية متخبطة، بين أن تظهر أناها أو تخفيها: "لو أتيتُ بلهفة المترنحِ/ أنزع عَنك الورود/ ألم تروضك الندوب بَعدْ/ كل القصائد شيدتها/ على مخدة المومياء/ وكل ذاك الشغب في عتمة الشعر/ ستنهشك أصابع زينتها بالخرز".
يعتمد ديوان "نهر الخرز" على الذاكرة البعيدة، ذاكرة الخطوات الأولى بين زحف الطفولة وعبثية الصبا في مدينة الشاعرة (عاموده-شمال سورية) باستحضار مفردات حياتية ويومية عاشتها الشاعرة قبل أن تضع قلمها على الورق.
يوجد مفردات وصيغ سياقية جاهزة، تحدد هويتها وباطن ذاكرتها، وقدرتها على تشغيل هذه المفردات لتخدم السياق "الخرز، مشهد حرب، القرى الصغيرة المتاخمة لمدينة عاموده، نهر الخنزير، قامشلي كمدينة، طيور الثلج" هي لحظات من واقعين متناقضين بين ذاكرتين متشعبتين ومنفصلتين زمنيًا ومكانياً، بين ملامسة الأشياء والإحساس بها، وقائع جرت وتجري بنفس الجريان والاندفاع، مشاهد وركام أيام، أوجاع تركتها أم، صور تتآلف وتشكل بؤرة النصوص، صور لا تتوقف عند حالة أو واقعة شعرية بعينها.
يشار إلى أن الشاعرة ماجدة داري من مواليد مدينة عامودا في الجزيرة السورية، تحمل إجازة في الفلسفة وعلم النفس من جامعة دمشق، وتقيم حالياً في الولايات المتحدة الأمريكية، صدرت لها هذه المجموعة التي تحدثنا عنها أعلاه، وقد ترجمتها إلى اللغة الكردية (çeme morîka).