الأحد 22 كانون الأول 2024 | 11:15 صباحاً بتوقيت دمشق
ياسر اسكيف

الشاعراتُ في ترويض الألم

الشاعراتُ في ترويض الألم
علا الشيخ حيدر - فنانة تشكيلية سورية
  • الجمعة 3 أيار 2019

لطالما أحسست بأن النص الشعري يحمل، في آليات تحريضه ودوافع إنتاجه، الكثير من تجسيدات ما فوق مبدأ اللذة. هذا المبدأ، أو النظرية التي اقترحتها (آنا فرويد) وشرحتها في كتابها الذي حمل العنوان ذاته. وإن في إعادة إنتاج التجربة نصيّا ً نوعا ً من جلسات العلاج النفسي الذاتي أو الطوعي.
وكما تهدف المعالجة النفسية الى إيقاظ الأحاسيس الدفينة التي تملي على الإنسان أفعالاً مُبهمة البواعث، فإن إنتاج النص الشعري يقوم بعمل مشابه من حيث تخليص الإحساس المُبهم، وليس الدفين، من إبهامه واختلاطه مع أحاسيس أخرى. ومن هنا تمّ التعارف على أن النص الشعري هو الإحساس مقبوضاً عليه في أكثر حالاته كثافة ونقاءً. مع اختلاف الذوات في المقدرة على إعلان أحاسيسها الحقيقية المقبوض عليها، أو المُدرَكة. وبالتالي فإعادة إنتاج اللذة هي سمة شعرية بامتياز من حيث أنها محاولة لتأبيد لحظتها بإعادة
إنتاجها سردياً، وكثيراً ما يتمّ تشويهها، بإعادة الإنتاج هذه، عبر التحوير، بالإضافة أو الحذف. وهذا التشويه خاضع بالدرجة الأولى الى موقع الأنا بالنسبة للآخر. وفي الحقيقة ما من إحساس جلي تماماً يصلح أن يكون موضوعاً شعرياً، لأنه، ولنقاوته التي لا تثير أحداً، سيفتقد المقدرة على الإشغال والإرباك. وبالتالي سيتحول الى نوع من الخطاب البسيط المباشر.
ومن موقع الأنا بالنسبة الى الآخر، أكان هذا الآخر فرداً أو مجموعة، يبدأ الاختلاف ويظهر بين تجربة شعرية وأخرى. ومن ثمّ بين نسق وآخر من التجارب.
فالأنا الأنثوية الخاضعة في شروط حياتها إلى عدد لا حصر له من أشكال التغريب والكبح والتقييد والممانعة والإلغاء ستنتج نصّها تحت ضغط هذه الأشكال، وبالتالي سيحمل ملمحاً يميّزه، شاء أم أبى، عن النص الذي تنتجه (أنا) القوّة والسيطرة. لما بتوفر لهذه الأنا من شروط الحرية النسبية في إعادة إنتاج أحاسيسها.
وبالتالي فالقول بنص شعري أنثوي، وشعرية أنثوية، له ما يبرّره، ويجعله بمنأى عن الوقوع في خطأ التقسيم الوظيفي القائم على أساس الجنس. وخاصّة أن أية دراسة متأنية ومتعمّقة للنص الشعري الذي تنتجه الشاعرات ستخلص الى سمات بعينها تغيب عن النصّ الذي ينتجه الشعراء. حتى ليمكن القول بأن الشاعرة تكتب رغبتها فيما يكتب الشاعر إرادته. وبين كتابة الرغبة وكتابة الإرادة يتولد حقل من التمايزات التي لا سبيل إلى إغفالها. والتي من أهمها الابتعاد عن الأنماط الموروثة في الكتابة الشعرية، وقلّة الخضوع لسلطة اللغة بماهيتها منظومة رمزية تشكلت وتمركزت كعنصر ذكوري، إضافة إلى النبرة الخفيضة في الخطاب، والابتعاد عن طرح القضايا الكبرى كمشاغل أو هموم، وصولاً إلى الفيض الكثير من الخيبة والألم.
قد يقول البعض بأن هذه التمايزات ليست بعيدة عن الكون صفات للنص الشعري الجديد عموماً، دون تقسيم جنسي يخصّ المُنتِجين. نعم. ولكن عناصر التمايز تلك ليست عامّة أبداً في مُنتج الشعراء الذكور، إذ يبدو التفاوت بخصوصها واضحاً وجلياً بين تجربة وأخرى. فيما تعتبر شبه لازمة في كلّ التجارب الأنثوية، بغض النظر عن مستوى الإضافة الإبداعية التي تقدّمها هذه التجربة أو تلك.
إن الإقرار بكتابة الرغبة، أو إنكتابها، في نصوص وتجارب الشاعرات السوريات ليس حكم قيمة أبداً بل هو عتبة لتأكيد التمايز والبحث في تجلياته.
لقد عطلت السلطة الأبوية (البطريركية)، تاريخياً، وظائف إنسانيّة كثيرة عند المرأة، وأحياناً وظائف جسديّة غريزيّة. حتى باتت المرأة مجرّد موضوع للرغبة الذكوريّة ليس إلا، وكلّ ما عدا ذلك من هوامش متروكة ما هو إلا محاولة لتحسين الأداء الرغبوي لديها. ببساطة متناهية إن ما حدث هو اختصار المرأة الى جسد. وبه بدأت المرأة الكتابة. متدرّجة من الإيماء الى الوشم والتبرّج وصولاً الى الكلمة.
المرأة الكائن غائبة ومقصيّة. والحاضر هو المرأة الجسد. ومن وعي ثنائية النفي والتحقق هذه تبدأ الكتابة كمحاولة لنفي النفي وتأكيد التحقق في الثنائية السابقة. وهنا نجد أن كتابة المرأة الشعرية تنحو الى خلق منظومتها الرمزية التي تتمحور حول الجسد في مواجهة المنظومة المكرّسة والممارسة، أو المتداولة. وهذه الكتابة لا تدخل في حرب، بقدر ما تضيف الى الهامش في محاولة منها لتحويله الى متن. ومن رغبات الجسد، قيما هو خصوصيّة لا يمكن الاستيلاء على ما يعتمل فيه من أحاسيس إلا بالموت، يبدأ الأنين الخافت، وتتدفق الكلمات. الكلمات التي ترسم، حسب حصّتها من النجاح، مخططاً يوضح موقع الذات الأنثوية، وأشكال علاقتها بمواضيع الحياة، كما علاقتها بذاتها.
وفي مخطط العلاقات هذا نجد الرجل الذكر محوراً ومرتكزاً يَسِمُ تموضعه كافة التجارب التي نعاينها في الكتابة الشعرية الأنثوية. فهو الأب مصدر الحماية والدفء (وهذه إشكالية بحاجة الى مزيد من البحث) وهو الأخ المتسلط، والحبيب المنشود. وفي العلاقة مع هذا الأخير، بما فيها من تذبذب في المستوى، وتقلب في الاتجاه والشكل، تتجلى أحاسيس الأنثى ومشاعرها، كما رغباتها، وكأنما هي الطريقة الوحيدة للتأكد.
وبالذهاب الى النصّ الشعري الذي تكتبه الغالبيّة من الشاعرات العربيات نجد أننا أمام تجربة صراعية تخوضها الـ (أنا) الأنثوية بين التحقق والاختزال، عبر شعريّة تتفاوت في مستوى شحنتها الشعرية، كما في تحريرها لبؤر التوتر الداخلي، بين تجربة وأخرى. والذي سنلحظه أيضاً هو زوغان أغلب تلك التجارب بين نثر موشى بكلمات وتراكيب اتفق على أنها شعرية نتيجة الانتماء الى الحقل البلاغي! ونثر شعري أعاد للبلاغة جوهرها ومعناها انطلاقاً من بلاغة الحسّ، وغرابة المألوف منظوراً إليه من موقع بكر. كما سنتلمس الغياب شبه التام للقضايا الكبرى مقابل الاحتفاء الحميم بأشياء الحياة المهملة ولحظاتها التي لا تثير الانتباه، واعتماد اللغة البسيطة المتحرّرة من عبء الغيب الدلالي، كأنما التقسيم القسري للوظيفة الاجتماعية ينسحب على اللغة. بحيث تفتقد هنا، أو يُسقط منها، كمّ هائل من المفردات، تحديداً تلك التي تتوفر على نبرة عالية بطريركية، أو تخصّ جوانب طقوسيّة وشعائرية معينة. ومن السمات التي لا بدّ من التوقف عندها أن الكم الأكبر من تلك التجارب يقدّم نصّه متحرّراً من الأنماط التقليدية للشعر العربي (العمود – التفعيلة). وعلى المستوى الوجداني لابدّ من الانتباه الى أن الألم سمة جامعة ومهيمنة. سمة لا يكتمل نصّ بدونها.