الأحد 22 كانون الأول 2024 | 5:7 صباحاً بتوقيت دمشق
حميد الشامي

إنه الشّعر ديوان العالم..

إنه الشّعر ديوان العالم..
سام غيليام (1933-2022) فنان أمريكي
  • الجمعة 11 تشرين الأول 2024

منذ بداية الألفية الجديدة، ومع مجيء موجة من الكتاب الجدد إلى عالم الرواية، منهم شعراء جيدون شاءت الصدف أن تلقى أعمالهم الروائية رواجاً هائلاً ونجاحاً، لعبت في جزء كبير منه مؤثرات ليست من الأدب في شيء، ومنها السياسة ودور النشر والمنظمات التي تشتغل في مجالات حقوقية بحتة لا تعني الفن والأدب ولا مجالاتهم العميقة والوجودية البعيدة عن الإحاطة والتأطير.. من هذه المنطلقات بدأت مقولات لكتاب صغار وقلائل في بعض البلدان تنشر تنظيرات قاصرة وساذجة عن نهاية الشعر وتبدلات اهتمامات النخب والعامة من القراء بفن الرواية التي كانت قد جنت على القصة بأنواعها في وقت سابق بفعل هؤلاء المهرجون أنفسهم.

الذي ولحسن الحظ كانت كل التغيرات الهائلة في العالم تدحض دعواهم تلك بكل ما يحدث من تقدم على كافة المستويات وخصوصاً التكنولوجيا وتغير أدوات التلقي زمنكانياً.

فإنسان اليوم كاتباً أم متلقياً أو مهتماً، أصبح يقضي جل وقته في مواقع التواصل الاجتماعي، يتابع قصاصات من منشورات صغيرة وتأتية الرواية وأي كتاب آخر على شكل مقتطفات صغيرة قد يعثر عليها في "ويكيبيديا" أو على صفحة صاحبها نفسه على الفيس بوك.

فأي رواية صار هذا الزمن زمانها كما يدعي البعض، نالت اهتمام متلقٍ متخبط ومشغول. بينما في رؤية وحساب بسيط يمكننا القول إن هذه الملايين من الناس صارت تقرأ الشعر أكثر من أي وقت مضى في العالم، لسهولة وصوله وتواجده بشكله الخام بكل أدوات التلقي الحديثة، حيث وُجد شعراء يكتبون نصوصهم مباشرة لحظة نشرها على فيس بوك مثلاً

وهذه واحده من القرائن الداحضة لمقولة إن الرواية أضحت "ديوان العرب". وهنا أكرر أن نجاح بعض الشعراء عند تحولهم لكتابة الرواية، وهذه النوعية كثيرة في بلدي الحالي اليمن، خلال السنوات الأخيرة، لمضامين تقليدية لتلك الرواية التي يكتبونها، حيث تتناول وبقالب الرواية التقليدية البحتة قضايا اجتماعية شائكة، كزواج القاصرات، أو المهمشين، أو الأقليات، أو التحولات السياسية التي تعيشها بعض البلدان العربية اليوم.

وهذا النوع حصد جوائز واحتفاءً عالمياً ربما من قبل منظمات وجهات رسمية، لقضاياه العادلة وليس لأدواته الفنية الروائية.

وأما دور النشر، فببساطة لم يكن ذاك الشاعر المعتر والدرويش ليجرؤ على طباعة ديوان شعر له في دار كبرى مكلفة، هو الصحفي أو الموظف أو العامل البسيط. كيف له أن يطبع ديوانه في دار الساقي أو بقية دور النشر في مصر ولبنان. بينما ببساطة دواوين هذا الشاعر أو الشاعرة تطبع في دور محلية أو في هيئة الكتاب في بلده ولا تتلقى أي ترويج أو تشارك بمعارض ومهرجانات أدبية.

وهنا يمكن لي أن أقول إن الشعر منذ مجيء الإنسان لهذه الأرض وإلياذته الأولى والشعر والغناء رفيق أوقاته في فرحه وحزنه وحروبه وتبدلات دهره وزمانه. هذا أولا.

وثانياً.. لو انقرضت كل أنواع التعبير لبقي الشعر حياً إلى أن ننقرض مثل الديناصورات ويرث هذا الكون كائنات أخرى ستكتب الشعر وتستلذ له أيضاً. فهذا الشعر ليس إلا خلاصة لكل اهتمامات الإنسان واندهاشه وسيرورة كل التحولات حوله ومعه.  ولنأخذ مثالاً واحداً هنا يغني عن ألف نظرية

إن قراءتك لرواية مدهشة أو قصة، أو مشاهدتك لفيلم سينمائي فتنك وشدك لعوالمه، أو سفرك لمكان جميل، أو ممارستك لملذاتك ورغباتك، فما هو الشيء الذي يعبر عن كمية الفائض والأثر من مشاعرك في لحظاتك تلك.. ببساطة لن تكتب رواية مشابهه ولا تصنع فيلماً، ولو كنت قادراً فلأنك بحاجة للصور للكلمات للإيقاع بأنواعه، ليحنط ويبقي ثمالة حواسك تلك أطول وقت ممكن ويخلدها، كمشاعر مجردة لا تحتاج تكتيك ومراجع وأزمنة لتنجزها.

لهذا سيظل الشعر هو الشكل التعبيري الوحيد الذي يمكن له أن يصف كل مكنونات الإنسان وموجوداته وانفعالاته ورؤاه لحظة الحدوث أو الاستعادة أو التأمل..

في الختام سيدرك هؤلاء الرواة الدخلاء والمنظرين أن المبدع والإنسان المهتم بالجمال، ورحابه الواسعة يمكن ان يقطع عنه كل شيء، ولكن لا يمكن أن يقطع عنه الشعر أو ينتهي منه. لأنه وببساطه بحاجة للتعبير مباشرة عن لحظة الانقطاع تلك عن الحرب والموت والجوع والخوف والرغبة نفساً تلو آخر..