"ركّاب الزوارق الورقيّة" الّذين ابتلعتهم القصيدة
غلاف الكتاب
- الجمعة 3 أيار 2019
التحدّي الذي يواجه قصيدة النثر، أنها بتخليها عن كل العناصر المساعدة من موسيقا وإيقاع ومبنى يحتويه في نسق حاضن، باتت عاريةً تقارع معناها متحملةً مغبة ومشقة العبور من ظلال المعنى إلى ملحمية الكلام، ودرامية الحدث، باستخدام أداة اللغة فقط وهي مرتبطة بالفكر، ويصعّب على العقل البحث عن بناء مداميك القصيدة الجديدة هكذا، لتبدو قدرة النفاذ إلى مسرح الدهشة، مهمةً قاسية أخرى، على شعر النثر العمل عليها بالحفر عميقاً في قلب الحساسية الشعرية نفسها.
ويصح ما سبق، بتصورنا، على ما قدمته الشاعرة السورية عبير سليمان، في مجموعتها الأخيرة (ركّاب الزوارق الورقيّة - دار بعل 2019) والتي قسّمتها إلى أربع جولات بدأتها بجولة اليقين ثم الشك، تلتها جولة الخوف وانتهت بالجولة الأخيرة: اللامبالاة، وأهدتها إلى "أجمل شعب غريق في العالم"، وهذا يعتبر ديوانها الرابع.
لا تمشي الشاعرة في مجموعتها هذه على هدى عنوانها، فليس هناك في المجموعة نصٌ يحمل عنوانها، إلا إذا اعتبرنا صفحاتها الأولى قبل بدء جولاتها الشعرية، هي ذاك النص، وغياب عنونته مقصود بعدم اشغال القارئ بالبحث عن أولئك الركاب لأننا، ومنذ البدء لن نلتقيهم ثانية، و "نذكرُ أنهم غرقوا بشكل يشبه النجاة/ ويذكرون أننا نجينا بشكل يشبه الغرق".
وإذ يغيب "ركاب الزوارق الورقية" وأحوال زوارقهم نفسها كمفردة من مفردات الحنين والغياب والمجهول والهشاشة، عن متن المجموعة، وهم من كان يمكن أن يحققوا إضافة حقيقة لمتنها في ظهورهم العلني، حتى بغياب سيرة الحرب الراهنة، فإن ذلك كما تقول الشاعرة في حديثها الخاص لموقع "أضواء المدينة" لا يعني غيابهم عن سردياتها "فكلنا ركاب زوراق ورقية" حصدنا الهم والحنين في سيرتنا السورية المتغيرة كما أهواء البحار نفسها، "إنهم حاضرون في نصوص رمزية وبإشارات فاقعة، كما أنهم كناية عن التجديف في الوهم وفي حلم لم يتحقق، في أمنيات اختنقت، وكل ما فعلنا لنحققها مجرد زورق ورقي".
وتضيف الشاعرة: "إن هذا ينسحب على كثيرين، كنا أولا في حالة يقين وثقة، ثم تغير الأمر وركاب الزوارق حاضرون في جميع الجولات في نصوص تشير إليهم في كل الفصول".
تحاكي الجولات الأربعة تصاعداً مرتبطاً بسياق مقصود لدى الشاعرة كانطباعات قبل وخلال الحرب، وفي كل منها جولة متضمنة في ثنايا مشهدية بصرية اعتمدت في جزء كبير على الرمزية، وفي تصاعد حركتها عبر المجموعة تنقلنا الشاعرة من يقين كان حاضراً في زمن ما إلى تحولات مراقب مجهول قد يكون أي فرد منا في سياق التصاعد الدرامي للحدث السوري غير المعلن في النصوص، إلا أن رائحته حاضرةً في التفاصيل، "لا معنى للبيوت التي نعمرها، لأجل قوم تسكنهم خيامهم".
والطيور التي تحاول ألا تكون تفصيلاً مملاً في يوميات المبنى المهجور، وحتى في الحب المتحول من شجاعة "آخيل" اليوناني ليكون "ضحية حرب لم تبدأها" ويرِثُ كما تقول الشاعرة "لعنة هكتور الطروادي" (ص 28 من مجموعتها).
لا تحتوي المجموعة أصوات كثيرة فهناك "أنا" الشاعرة المسيطرة على المشهد الكلي، متلبسةً أحياناً ثوب "نحن" وقليلاً "هم"، وتغيب أصواتُ "الآخرين" ـ وتتفوق أصوات الضياع صادرةً عن الشاعرة كناطق باسم هذه الأوجاع ـ والحب أجملها ـ والأحلام والخيبات أكثرها، في أمكنة ملامحها مصابةً بشظايا الزمان ومتراكبةً في صورة شعرية تلعب لعبة التناقضات اللفظية ـ زمانياً ومكانياً ـ محققةً نوعاً من التلقي الدافئ دون الرضى النهائي، وهذه ربما، ميزة الشعر وضرورته في السردية البشرية. فنحن "سوف نقضي العمر بإزالة الركام. نحنُ أصحاب مصنع الفخار الذي يكسّر بعضه بعضاً".
جاءت سلمان إلى عالم الشعر من عالم الهندسة، ولعل هذه الهندسة حاضرة في طريقة رؤيتها للعالم، وهذا ليس أمراً نافراً، فالتكوين الشعري قادر على الخروج من أي شرنقة في الوجود منساباً بالشكل الذي يتملكه صاحب الرؤية، إلا أن مصيره قد يتمترس أحياناً ضدّ التلقائية التي تتميز بها القصيدة عموماً.
في مجموعة عبير هذه، خيل إليّ كقارئ، أن الهندسة قد ساهمت في ترتيب لا مرئي لنصوص كل جولة من جولاتها على مراحل لا تتناقض مع تصاعد القلق الشعري، فاليقين يتلوه الشك والخوف، ثم اللامبالاة.
لا تخلو المجموعة من صور شعرية مفارقة، وتجهد الشاعرة في توظيفها لخدمة سردياتها بشكل كبير، ومع المفردات المعتادة في الشعر الحديث، فإنها قد نجحت في تمرير رؤيتها بتوزيع بصري يبدو الإتقان فيه في النص الواحد مشغولاً عليه بعناية لفظية ولغوية لا شك فيها، وعبير بشكل واضح لا تستهين بأناقة نصها اللغوية، إلا أنها تقع في عادية الصورة أحياناً، وهو ما يقلل اﻷثر النهائي للنص ومتعته، رغم جهدٍ واضح في محاولة خلق مفارقة في تلك الصورة، تكتب في واحدة من الصور المفارقة الجميلة:
"أنت كل الراحلين
والمفقودين
والغائبين
وأنا
كل تلك البيوت الخاوية".
يستمد شعر النثر قوته كما قلنا من مواجهته العارية للعالم أعزلاً من كل صديق لغوي، وفي تصاعد تجربتها في ديوانها الرابع، تخطو سليمان خطوةً جديدة على أمل تحقيق بصمتها الشعرية الخالصة، إلا أنها للآن لم تخرج من ثوب تقليدية الحداثة إلى متاهات التجربة بمعناها الشعري، فالمفردات الحداثوية هي نفسها في بحثها عن تموضع جديد في خارطة الشعر السوري، وسليمان لا شك تمتلك الأدوات اللغوية التي تتيح لها ابتكار غِوايتها الشعرية دون توقف:
"الشعر يبقى حين نصمت
حين نكابر
وحين نغادر،
ليس غايةً ولا وسيلة،
الشعر أثر".