السبت 21 كانون الأول 2024 | 8:15 مساءً بتوقيت دمشق
عمر الشيخ

نزار قبّاني.. العالم الذي من شِعر

نزار قبّاني.. العالم الذي من شِعر
الشاعر نزار قباني في لندن (1923-1998)
  • الأحد 28 نيسان 2024

عندما كنت في الصف السابع عام 2000، تسرّبت إلى حياتي سراديب من الرغبات بأن أكون شيئاً في هذه الدنيا؛ شيئاً أمام نفسي فقط.
وفي يوم شتائيّ بعد المدرسة مررت قرب مكتبة في حيّ الميدان الدمشقيّ، ورأيت كتباً للشاعر الراحل نزار قبّاني، اخترت كتاب "قالت لي السمراء" ورحت أقلّب صفحاته، بينما تهتز في جوارحي الكلمات والصور؛ يخرج نزار قبّاني من غلاف كتاب "قصيدة بلقيس" من على رفّ المكتبة ليقول لي: تعال يا بنيّ، إنّ العالم دون شعرٍ لا يمكن أن يستمرّ!، حينها وقعت في الشّعر وبدأت أقرأ كلّ شعر نزار الذي أخبرني أيضاً عن عمر بن أبي ربيعة وعمرو بن كلثوم وبشار بن بُرد، أجل، لقد علّمني شعره أن أبحث وأسأل، وألا أشبه إلّا ذاتي.
هكذا بدأت اللّعبة، من لحظات تأثّر لمراهق بكلمات سحريّة يكتبها رجل يعيش في وجدان المخيلة السوريّة الحديثة، صرت أتعرّف أكثر على نزار، ولا أشتري سوى كتبه، أذكر مرة في معرض دمشق للكتاب عام 2007 كيف بحثت فقط عن "منشورات نزار قبّاني" لأشتري كتبه مثل "قصّتي مع الشّعر" و "هل تسمعين صهيل أحزاني؟" و "خمسون عاماً في مديح النساء" و "دمشق.. نزار قبّاني"، وهكذا، لاحقاً اشتريت معظم كتبه.
لقد كوّن أدب هذا الرجل بذور مخيّلتي الأولى، حرّرني شعره من الخوف، أعطاني أشياءً من الأمان لأقول أفكاري وأنا في سنوات عمري الأولى.
عندما يرتبط موضوع الشّعر في المشهد العربيّ، بسورية، يخطر في بالنا نزار قباني، و دون أن نشعر نتذكر كيف دخلت مفرداته إلى رسائل حبّنا الأولى، وكيف عطّرت أنفاسنا أبجديته الدمشقيّة الخاصّة، لقد أصبح جزءاً من التُراث الإنسانيّ لكلّ سوريّ، أضاف لي أدبه على مستوى التفكير والتحرّر كثيراً من الاقتراحات في فهم الجسد والحبّ والآخر، منذ المرأة الأم والعاشقة والحبيبة والأخت والصديقة والعاملة والشريكة في الحياة وصولاً إلى قضايا بحجم فلسطين والحريّة في العالم العربيّ والتنظير للشعر الجديد، كان الرجل حاضراً وتراثه يسبقه في المعاصرة.
لم تنفصل حوارات الأستاذ نزار عن شعره وطريقة حياته، فقد كان الناس جزءاً من عالمه، وكان شاعرَ حياةٍ، يقدّم تصوراته عن التجربة دون أن يغيب عن ذهنه مفهوم التطوير والحداثة بعد أن هضم جزءاً يسيراً من القراءات لمن قبله، وهذا ما دلّت عليه الصورة البانورامية لتجربته، فالنص في "طفولة نهد" الصادر عام 1948 ومنه "غداً ستحتشد الدنيا لتقرأني / ونخب شعري، يدور الورد.. والعَرَقُ" ص 32، يختلف تماماً عن النص في "لا غالب إلّا الحب" الصادر عام 1989، يقول نزار: "هو شاعر/ يركب دراجة الطفولة/ ويمدّ لسانه/ لكلّ إشارات المرور" ص 188، لم تتغير اللغة بقدر ما أصبحت أكثر خصوصيّة مع الحفاظ على الرّوح الأولى.
معظم شعر نزار في البدايات كان غارقاً في مشاغل الحبّ والحريّة والمرأة، وكانت بوصلته الإبداعيّة تزداد تحديداً مع نمو تجربته إزاء السفر والتنقّل وتعلُّم المزيد من اللّغات الأجنبية التي ساهمت بشكل كبير في تغيير نمط كتابته من القصيدة الموزونة إلى قصيدة التفعيلة وصولاً إلى قصيدة النثر أو النثر بالمطلق، ألم يقل يوماً "أن الجدار بين النثر والشّعر سوف ينهار كما إنهار جدار برلين".
هضم الشّاعر كلّ ذلك وبقي في لعبته الأكثر خصوصية وهي صوته النزاريّ الذي لا يمكن أن يخطئ في كشف هويته الشعريّة، ذلك العالم الإنسانيّ الذي يمشي على قدمين، عايش أزمنة تصارعت فيها الأيديولوجيات والتقنيات والأدوات الإبداعية، وتغيّر فيها المجتمع بشكل جذري، وكذلك التحولات السياسية التي لعبت دوراً بارزاً في تجربة نزار بعد نكسة عام 1967، لنقرأ مثلاً أعماله السياسية الكاملة.
لقد كتب الشّاعر معظم أشكال النص الشعريّ في صورته اليوم، القصيدة الطويلة الموزونة، كالمعلّقات مثل كتابه الشهير "يوميات امرأة لا مباليّة"، كما كتب الرسائل القصيرة التي تشبه إلى حدّ كبير القصيدة النثرية في كتابه "100 رسالة حبّ"، وكانت نصوصه مناسبة بقوة للأغاني فألهم المطربين وأحدث انعطافة كبيرة في الذائقة العربية بعد ما غنّى له كلّ من أم كلثوم وفيروز وعبد الحليم حافظ ونجاة الصغير، ولاحقاً كاظم الساهر وماجد الرومي.
عندما أكتب عن نزار قباني، لا أسعى للتحليل والمقاربات والنقد الأدبيّ، فهو أمر لأهل الاختصاص، أمّا بالنسبة لي أكتب عن أستاذي ومعلّمي في الشّعر، أكتب عن أبي الشّعريّ الذي لم أعد أشبهه في شيء وأخذت منه مفاتيح الأبواب التي أريد العبور منها إلى عالم الشّعر، بيد أنه لم يغادرني، طفلاً وعاشقاً وشاعراً استثنائياً يرتبط بشكل وثيق بمخيلتي السوريّة عن الثقافة والحياة الدمشقيّة.
اليوم إذا عدنا لقراءة نزار بوعي أكثر اتساعاً ومعرفة، سوف ندرك - دون شك- مدى السّحر الجميل الذي كنّا نتعاطاه أثناء تذوق قصائده، ففي كلّ مرة نكتشف سراً جديداً وسؤالاً محيراً لطالما يأتي واضحاً عن مدى الأثر الذي تركته تجربة الشاعر في حياتنا وما إذ كان ثمّة من يماثله بالحضور والشعبية والقرب الصادق من جميع الناس، ببساطة لأنّه كان عبارة عن عالم متفرد كلّه شعر، كلّه حياة خاصة تثير فضولنا بأن نتعلّم منه الكثير من الجمال والحبّ.
______
كتب هذا النص بمناسبة ذكرى رحيل الشاعر في 30 نيسان / أبريل 1998 والتي تمر هذه الأيام.