تخلَ قليلاً عن هذه الطفولة
إدفارت مونك (1863-1944) فنان نرويجي
- الثلاثاء 1 آب 2023
قالت وأنت تعد حقائبك لا تنسَ أن تستعيد طيفك الذي هرب مني ذات ليلة عاصفة! دسه جيدًا بين ملابسك واحكم إغلاق الحقيبة، فإن له في الدار مطرحاً، وله في جدرانها الكثير من البرتقال الذي طليناها به، وله في حضنَي أمك وأمي المريضتين، الكثير من المشمش، والخبز الطري، وعسل الطبيعة. له ما ليس لي من وجهك الآخر، لكنه طفل جميل كما رأيته قبل أن أراك، يومها قبلني حتى هده التعب، وحين صحوت وجدت شفتَي متورمتين. وكنت غاضبة جدًا، وكان غضبًا جميلاً، أمسكت بآخر خيط من دخان الحلم لأنسج لك صدرية تحمي صدرك العليل من برد ديسمبر.
أعلم أنك تكره البرد وتحب ديسمبر، ليس فقط لأن مطربك المفضل هو عمر فتحي، ولكن أيضًا لك فيه وطر، ولي فيك ما ليس لك من بؤس طفولتي! مراكبك الورقية لا تزال في أماكنها، لم تمسسها يد غير نفسك اللاهث في أركان البيت.
مكتبتي التي جرح رقبتك خشبها وأنت تحمله لأعلى، خمسة طوابق كنت تأكل سلالمها اثنتين اثتنين، وتقضم من رئتيك قضمتين قضمتين، لا تزال شاخصة إلى عرينا في الصباح، ونحن نعد ورق العنب الذي تحبه أكثر من الشيكولاتة، وعضات عم محمد البقال لخنصرك وأنت تشتري الشيكولاتة.
هذا الصباح نظرت إلى ملابسك الشتائية خلف باب الغرفة، كساها التراب لكنه لم ينزع عنها رائحة أمك، ولا نظرات أمي التي لم ترَك!
قلت هذا يكفي ليؤنس وحدتي، وأنت غائب في السواحل، تجمع الأحجار لنساء غيري، يفتشن فيك عن بطولة زائفة! وحدي أدرك هشاشتك وأعلم أنك طفل لا يغره طوله الفارع، فهو يغرق في شبر ماء، ويطفو إذا هبت رياح من جبل النهاوند!
الماء وافر عندي، كذلك النهاوند والسيكا والحجاز، أنا منشأ الموسيقا، أيها الطفل اللاهي، بموسيقاك من فرط شوقي لنزقك، وقبل الصباح التي تورم أعين الحاسدات من زميلاتي في العمل.
تعال! لن أخبر أمك باستراقك للقبلات مني وأنا نائمة. لن أخبر أمي بأنك وسخت ركبتيك عند قبرها وأنت تدبدب في الأرض كي أقول أحبك.
كنت أحس دائماً أني سأفقدك إن قلتها، هل آلمتك كثيراً؟! وهل أول الفرح إلا الألم؟! يا عبيط! لا تغضب! تخلَ قليلاً عن هذه الطفولة، شاب شعرك، وتخلعت أضراسك، وما زلت تصنع لي المراكب الورقية! تعال صار لديك أسطول تستطيع به غزو بحري الذي شردتك نواته!