الثلاثاء 3 كانون الأول 2024 | 7:45 مساءً بتوقيت دمشق
رند قنب

مثلما أشهق الآن

مثلما أشهق الآن
الشاعر الإسباني فيديريكو غارثيا لوركا
  • الجمعة 9 حزيران 2023

عزيزي لوركا...
"عن الهجران ولغات الكون في الأدب"
قديماً في العصر الجاهلي كان يتجسد الهجران أو الفراق أو البُعد بأشكال عدّة، كالوَقفِ على الأطلال ومناجاة الطائر.
بَيد أنّ أغناها تفصيلاً شعرياً وشاعرياً هو تجسيد معنى الهجران. كمراقبة قافلة المحبوبة وتبادل النظرات عند رمق الفجر. كان الشعراء في العصر الجاهلي يُصنّفون رمق الفجر الأخير بالهجران الأبدي، ناسجين منها ملاحم شعرية مؤلمة، واصفين الحنين إلى الماضي، والوقوف على الأطلال، متكلمين عن كلّ عذاب أبدي باقٍ.
تخيّل معي هودجاً يحمل المحبوبة والشاعر يركض وراءها ليحصل على "نظرة أخيرة"!
دون تلامس لو لمرةٍ واحدة!
دون عناق!
فقط رمقة!
فالشاعر يُمنّي النفس للحصول عليها، ليحمي ذاكرته من هجرانه أيضاً.
أمّا في العصر التالي، كان بعض الشعراء قد دخلوا الإسلام ملتزمين بدعوة النبي، فكان الشاعر يعشق محبوبته عشقاً عفيفاً عذرياً، مكتفين بنظرات من وراء حجابٍ حريريّ، أو للقاءٍ تحكمه صدفةً ما.
ومن هنا وأعود لنفسي لأسأل ما هو الهجران؟
مستذكرة ما قلته لي عندما طرحتُ عليك هذا السؤال الفلسفي، فأجبتني: "بقايا رمق وذكرى".
فيما يلي ملخص قصير لما تعلمته في السنوات الثلاثة الأخيرة:
هجران.. لوعة.. فراق..
وأذكر، كما أنني هُجِرتُ.. هَجَرتُ!
هجرتُ الكثير من الناس، تركتُ الكثير من الكتب والكثير والكثير من الأشياء.
توفقتُ لبرهةٍ لأصنف الهجران ضمن معالم الطبيعة وأقول:
مثلما تهجر الشمس السماء عائدةً بالقمر..
مثلما تهجر الزهور التربة
لتوضع في إناء كي تسرَّ الناظرين مبتعدةً عن التربة..
فتجفُّ تلك التربة من كثرة بكائها.
فأضحك وأقول إنها مثل المياه عندما تهجر غسيل الأواني في أثناء عملية الجلي نحو نافذة الصرف الصحي المثقوبة.
مثلما تختفي النجوم بعيداً تاركةً القمر وحيداً في السماء هو أيضاً هجران للذكرى.
في أثناء البكاء تهجر دمعة حارقة العين متساقطةً على الوجنتين فتمسحها يدٌ ما، كما تمحي الرياح قطرة الندى المتجمعة على أوراق الشجر..
مثلما.. مثلما أشهق الآن وأقول إنهم كلهم أنا!
هَجرت مثلهم، وهجرتك..
وأصبحتُ كأصيص من الزهور الجنائزية، الّتي لم يأخذها حفار القبور في طريقه، بل بقت تلك الزهور وحيدةً تنتظر ذكرى عابرة أو دمعة هاربة في ورقة شجر.