الأحد 24 تشرين الثاني 2024 | 3:23 مساءً بتوقيت دمشق
ميرفت أبو حمزة

كالمذبوحِ في ترفِ اللونِ

كالمذبوحِ في ترفِ اللونِ
نذير إسماعيل (1946-2016) فنان سوري
  • الجمعة 31 آذار 2023

قد لا يكفيكَ الوقتُ المتبقّي
كي تقولَ كلَّ ما عندَكَ !
تنفسْ ملءَ صدرِكَ
وأطلقْ كلَّ الكلماتِ المحتجَزَةِ دفعةً واحدةً ..
قُلْها ولا تخفْ ..
قلها دونَ أن تعبأَ بفمِ الغيبِ
المحشوِّ باللعناتِ والسُبابِ ..

قالَها واحترقَ !
هذا الموقدُ كبيرٌ جدّاً
أقصدُ موقدَ البلادِ التي تحرقُنا
وضاقتْ برمادِنا المنثورِ هباءً
هذا الموقدُ متصدّعٌ.. متصدّعٌ
لكنهُ قبرٌ آمنٌ في هذا البلاء ..
وقالَ: لا تتركيني خارجَكِ أيتها البلادُ
أحتاجُ أن أنهضَ منّي فيكِ
أن أنهضَ من رماديَ الخزفيِّ داخلَ حدودِكِ
كأيِّ شجرةٍ محتطّبةٍ أو كأيِّ جدارٍ ..
حين يفكّرُ السادةُ بعدَ الشبع
ببناءِ ما تهدَّمَ من بيوتٍ وحاراتٍ وأحلامٍ
قالها واحترقَ !

عيناكِ والبراكينُ وكلُّ البراهينِ
البيّنةِ منها والمستترةِ
دلائلُ واضحةٌ للقيامةِ ..!
ابْكِي بسرعةٍ فقد حانَ الأوانُ
وأفصحي عمّا التبسَ ..
أريدُهما صافيتينِ كي أقرأَكِ الآنَ
أريدُ براكينَكِ كلَّها بكاملِ وهجِ الانطفاءِ
أريدُ براهينَكِ واضحةً وفاضحةً
كي تُرفعَ الجلسةُ والمُدانُ واقفٌ كالجرذِ
خلفَ القضبانِ ..
هذهِ المرّةُ أريدُ أن أصيحَ: محكمة..
وأنامَ بكلِّ حرائقي
أريدُ أن أنصبَ خيمةً صغيرةً في الحلمِ
ومنها سوفَ أمضي
كي أُُحِقَّ الحقَّ بشرعيّةِ ما بقي منّي
وأُُسقِطَ رايةَ البهتانِ
محكمةٌ... وأنامُ.. أفيقُ أو حتّى أموت
ومن سيفرّقُ بينَ النائمِ والنائمِ في أبديتهِ..!؟
قالها واحترق !

أيّها الكثيرُ رغمَ قلَّتِكَ
القليلُ القليلُ رغمَ كثرَتِكَ
أيّها المحترقُ الباردُ المتوهجُ
انهضِ الآنَ ..
كما لو أنكَ واقفٌ بجنازتِكَ
تطبطبُ على كتفِ أبيكَ
تمسحُ دمعَ أمِّكَ
كما لو أنكَ وحدكَ.. وحدكَ
تصنعُ مجدَ حدادِكَ بالألوانِ ..
كما لو أنّكَ الميّتُ الوحيدُ بينَ الأحياءِ
الحيُّ الوحيدُ وكلُّهم أمواتٌ
كما لو أنَّ عرشَكَ الخشبيَّ تفتَّحَ تحتَكَ فجأةً
صارَ شجرةً
صرتَ عصفوراً.. هيْتَ لكَ الآنَ
أجنحةٌ... أجنحةٌ
هيا إذن.. كالمذبوحِ في ترَفِ اللونِ فَرْفِرْ
ورفرفْ بكلتا يديكَ
رفرفْ فما عادَ خوفٌ عليكَ
حلِّقْ وحدّقْ بالجميعِ
لكن إيّاكَ أن تغرّدَ قبل أن تُرفعَ الجنازةُ
فأنا لا أصدّقُ التغريدَ في الجنائزِ ..
وإياكَ، ثمَّ إياكَ
أن يأويَ طيفُك إلى الفراشِ في اللَّيلِ
فأمُّكَ الآنَ تحُكُّ وجهَ الترابِ في العراءِ
وتحرصُ على إبقائِهِ رطباً بدمعِها كيلا تعطشَ
كي تنطفئَ ..
وعندما تصادفُكَ غيمةٌ ثمِلَةٌ في السماءِ
اشرب نخبَها وغَنِّ وكأنهُ غناؤُكَ الأولُ أو الأخيرُ ..
غَنِّ ..
سيّان أنا وأنتَ في موتِنا الحيِّ ..
في حياتنا الميّتة..
قلْ ما عندكَ دفعةً واحدةً
فهذهِ الأرضُ ترانا بعيونِ اللهِ
وتبكينا، وتبكي هذا الخرابَ المقيتَ
قلتُ هذا وأنا أحتضنُ بكاءَ صمتِها
بينما كلُّ شيءٍ في داخلي يحترق..