الشاعرة السوريّة فرات إسبر: العالم يُغيّر الشّعر
الشاعرة (فيسبوك)
- الثلاثاء 13 أيلول 2022
شاعرة سورية مقيمة في نيوزيلندا، تكتب بخيانة الفرح، عابرة نحو خارج المكان فينا، باحثة عن عري الغياب بأسئلة القلق الوجودي. تكتب الشعر بنضج الدهشة والألم والأمل عبر دواوينها: "مثل الماء لا يمكن كسرها"، "خدعة الغامض"، "زهرة الجبال العارية"، "نزهة بين السماء والأرض". كان الدور الكبير للإنترنت في التعريف بشعرها للقارئ العربي.
الحوار معها يتناول شرفات تجربتها الشعرية، ورؤيتها للمشهد الثقافي العربي، واستشرافها لمستقبل كينونة قادمة.
* من هي فرات إسبر، الإنسانة، والشاعرة، في المكان وخارج المكان؟
* بغض النظر عن اسمي الشخصي، المرأة في العالم، نرى التباساً حولها، بالنسبة للمكان وخارج المكان، وكأنها المنتمي واللامنتمي، في الوقت عينه، فما بين الإنسانة والشاعرة تتغير الجغرافيا زماناً ومكاناً، لترى أن المرأة هي عدد من الأعداد التابعة أو اللاحقة لغيرها حيث ترسم حدودياً ومعرفياً، باختيارات ليست لها. إذ لا هوية محددة للمرأة الشاعرة ولا للمرأة الإنسانة، فهي تضيع بين الأماكن روحاً وجسداً بالانتماء إلى أماكن تنتمي لها بالفطرة وأماكن اكتسبتها كحق من حقوق المواطنة. وتبقى المرأة، تدور عبر تنقلات الجسد والأماكن والهوية والانتساب إلى المكان.
* يقول تولستوي: "إن أردت أن تكون كونياً تحدث عن بلدتك ". كيف كان اقترابك من قصيدة الاغتراب إنسانياً ووجودياً؟
* الوطن، خلية من خلايا الجسد، مهما كنت محروماً ومعدماً فيه، يتنازعك الحنين إليه. نرى ملامح أوطاننا في بلدان أخرى، هذه الشجرة تشبه تلك الشجرة هناك، هذا البحر، هذه الجبال، أو هذه العادات والوجوه، كل ما فيها يشبه بلداننا، ولكننا نعزّي أنفسنا بالحميمية ونقول: للهواء هناك معنى آخر رغم تلوثه بالغبار والتراب، رغم الحروب التي تنازعه، رغم قلة الرفاهية، والحاجة الملحة للعمل والعيش ومع ذلك نشتاق ونبكي ونتذكره بدمعة. البلاد حاضرة في كل النصوص تقريباً، وحتى إن لم تكن، فعطرها يحوم حولي.
* تكتبين خوفاً من الموت أو حنيناً للطفولة؟
* الموت هاجس، كما الحياة، كما الحنين. عناصر الشعر؛ موت حياة، كلمة تموت وكلمة نحيا، هكذا هي الحياة التي نعيش. فكما نفكر بالحياة نفكر بالموت، إنها أسئلة وجودية خالصة، ويأتي الشعر ليعمق هذه الأسئلة المحيرة، قد يخفف من قسوتها وشحوبها، لذلك نترجى الموت، بالحنين والأمل والحياة.
* كيف يزهر وعي الخيال عندك: هل من إحساس قوي بالهوية، بالاغتراب أم من التماس الثيمات الوجودية؟
* بعد أن ضرب الموت والدمار هذا العالم، انتشر الموت في العالم بشكل مرعب، حتى الفلاسفة والدارسين يعجزون عن تفسير ظاهرة هذا الموت، ويبدو أن الحياة صارت عبثاً في عالم يُقتل فيه الشاعر بناءً على فتوى من جاهل، وتُسبى نساء. نحن تفسيرات نصوص لا يقبل بها العقل البشري الواعي. لقد أصبح الإنسان فاقداً لحريته ولوجوده وهو يرى جماعة على هيئة بشر يقتلون المئات من البشر الآمنين في لحظة. العالم يشهد رعباً مخيفاً، ندفع ثمنه نحن النساء والأطفال، وحتى الرجال. من سبي للنساء وقتلهن واغتصابهن على أساس الدين والطائفة والهوية، إنه لأمر شنيع ما يحدث في بلاد المسلمين وتحت شعائر إسلامية ونصوص يفسرها جهلة لا علاقة لهم بالدين ولا بالحياة. أمام هذا الهول الذي نشهده، ماذا يفيد الخيال؟ إن الواقع هو صورة حقيقية لهذا الخيال الذي تشبَّع بالدم؛ بدم الواقع والحقيقة التي نشهدها في خراب الإنسان والروح، وما من منقذ لنا من هذا الظلام.
* تقولين: "أسامحها بلادي، أسامح كل حجر كريم فيها، فقط أتمنى أن تعود إلى أمانها وسلامها من تتار العصر الجديد، والذين قتلوا كل جميل فيها حتى رؤوس شعرائها، وتماثيلهم من أبي العلاء إلى أميراتها". ما هو الدور الذي تضطلع به الشاعرة في متاهات الإنسان العربي بين الفكر الظلامي والحداثي؟
بمجمل الظروف التي حدثت وتحدث في المنطقة العربية من حروب وطائفية وقتل على الهوية، لم يشهد العالم ردة فعل من المتنورين على الرغم ممن الخراب والقتل الممنهج، وكأن هذه الحرب مخططاً لها منذ سنوات. نحتاج إلى يقظة واعية في وجه الظلام، ولكن أين أصحاب العقل المتنور لمواجهة هذا الظلام؟
* تقولين في أحد ابياتك: شبح الموت يؤرقني/ فيا سماء أطلقي سراح النجوم/ عابرة أنا بين الكواكب ألمّ جراحها. كيف هو عبور الموت في دواخلك، بين العدم والغياب؟
* الموت هو الغياب، والغياب موت آخر، مثل المصابيح في السماء تختفي وتعود. لا بد من الموت. أتمنى أن أصبح في حياة أخرى، نجمة أو نهراً، لأن النجوم والأنهار هي أجمل الشعراء؛ واحدة تضيء والآخر يسقي. إذاً الموت حضورٌ آخر هنا.
* بدءاً من "مثل الماء لا يمكن كسرها"، وهي عنوان المجموعة الأولى، والتي صدرت في 2004 , وتلاها الكثير من النصوص التي هي كشف للذات الخاصة ومنها أيضاً "المرأة التي لم يقرأها أحد" و"امرأة متصوفة". أي خطاب نسوي توجهينه بالمعنى الروحي والنفسي للآخر؟
* المرأة هي أشد تركيباً وتعقيداً من كل مخلوقات الأرض. فطبيعتها البيولوجية والنفسية أعطتها تركيباً مختلفاً عن الرجل، لذلك يجب أن يكون معنى الخطاب إليها أعمق وأنضج. ولكن هذا العمق لا يقبله الذكر، ومن النادر أن نجد عبر التاريخ شاعرات متصوفات، أو فيلسوفات، وإن حدث ووُجدن، تعرضن لأبشع أنواع التعذيب والتنكيل التي تُنسب إلى الرجل وتُكنى به، من هنا تكون هويتها الإبداعية مزدوجة، حتى في العملية الإبداعية تُنسب إلى الآخر.
* كيف اكتشفت عبقرية المكان والتاريخ في الغرب بالنسبة للمشرق؟
* القراءة معرفة والرحلة استكشاف، ومن كليهما يتشكل الوعي المعرفي تجاه العالم والمحيط. الانفتاح الثقافي والمعرفي هو حصيلة سنوات من التبادل على جميع الأصعدة، وهذه الثقافة ممزوجة ببعضها ووليدة بعضها بعض. وثقافات الشعوب مشاربها واحدة من اللغة، والتاريخ، والفلسفة، والأسطورة. أحتاج إلى سفر آخر كي أتجدد، لنعبر عبر جبال الاطلسي ونقرأ ما خطته الأساطير الأمازيغية، ما خطه حب الغرب للمشرق. أجل ما سمعته في الغرب من أصدقائي، من أهل الغرب: أهلاً بك فرات، أنت في بيتك الثاني. حقاً كمن أشعر أنني في بيتي الأول، ولا يمكن للبرتقال إلا أن يفوح عطره.
* من خلال تجربتك الشعرية، هل يمكن للشعر الحداثي أن يغيّر العالم والإنسان؟
* من الصعب جداً أن يغيّر الشعر العالم، العالم هو الذي يغيّر الشعر. عندنا شعر الحرب وشعر الحماسة وشعر الهجاء. حروب داحس والغبراء، حروب العرب، لم يوقفها شعراء الحماسة، بل كانوا يشحنونها لهباً بأشعارهم. نحن نجمع بين حالتين؛ نحن أمة شعر وأمة حرب. يظهر الشعراء في الحروب بوصفها بعيداً عنها، بينما يموت البطل الحقيقي ويُنسى. أين الشعراء وأصواتهم، لماذا لا يشاركون في الحروب ضد داعش التي هي العدو اللدود للثقافة والحضارة؟ الشاعر يُسجن من أجل كلمة. لم نسمع صوتاً من شعراء العالم، هل يؤسس لمظاهرة عالمية، لقمع ودحر داعش؟ مع أن داعش قامت بقتل التراث الإنساني الذي يتغنى به الشعراء، الشعراء والكتاب موتى في المواجهة. أستغرب كيف يكتب شاعر أو أديب أو روائي عن الحرية والعدالة والمساواة وحقوق المرأة، وبالمقابل لدينا المئات من السبايا، لدينا المئات من المغتصبات، من الأطفال المحرومين. يدافع عن حقوق المرأة بينما امرأته وابنته ترتدي البرقع. وما زال ينظر إلينا كعورات. المسألة لا تنتهي أبداً...
* آخر اشتغالاتك الشعرية؟
* الشعر فضاء واسع يشبه رياضة اليوغا، هو تأمل بحد ذاته، مجموعات متراكمة من سنوات، والفقر يقتل الشعر فلا مجال للطباعة.
* شذرة الختام؟
بستان حزين، أنا
وتماري عاشقة
عطر أنا
ووردي قليل
حب أنا
وقلبي كراهية
ولأن الحياة تعرفني، رسمت أقداري
رسمت نهراً لأقطعه
وعشاقاً لأمضي لهم
وبيتاً لأهجره
تهزني الحياة
ومن جديد
أزهر مع ربيعها.