"الغريب الذي نسي ظله" لـ أوس حسن: الرَّغبة في العُري
غلاف الكتاب
- الأحد 19 حزيران 2022
* قيس كاظم الجنابي
اُشتقت مفردة (الغريب) في اللغة العربية من الغربة، والغربة والاغتراب نوعان:
الأول، غربة مكانية قائمة على كثرة الترحال. والثاني، غربة نفسية قائمة على الإحساس الداخلي بعدم الانسجام مع الواقع.
وعنوان مجموعة أوس حسن "الغريب الذي نسي ظله" تحيل إلى غياب الهوية، فالظل ملازم للجسد، ولا يمكن أن ينسى صاحبه، وهنا يدخل الجانب المجازي للتعبير الجلي عن الغربة، وهو كما يبدو سمة ملازمة لنصوص هذه المجموعة، لهذا تصدّرتها مقولة للفيلسوف الفرنسي ألبير كامو فيما يتعلق بالإحساس المختلف عن الآخرين، ربما جسّدته روايته «الغريب» وبطلها (ميرسو). والغربة هنا هي غربة حياة وموقف، غربة اللون والمكان، والأحلام، والرؤى، والوعي.
تحيل عناوين النصوص إلى نوع من الغربة، بسبب طولها، فمن (أسئلة من رماد) إلى (السيدة التي صارت موسيقى للبحر) عبر فاصلة طويلة من البحث عن الجديد، حيث يقول:
وجهك الذي صار بلا مرايا..
في حكايا المدينة.. وحقائق الفصول
بحثت عنك..
في معطف الصباحات الحزينة..
في الغروب المبلل بالصدى..
في الأزقة والدروب الموحشة..
في الحدائق والمقاهي..
تبدو صور الرحيل والسفر والظلام والخوف كلها بصفة لقطات متفجرة بالغربة، غربة الإنسان في زمن الوعي، كما في (أجراس الزمن البارد) والأجراس تدق وقت الخطر، والبرودة تحيل إلى جسد الموتى، حيث النفي المعبر عنه لغوياً بأدوات النفي كقوله:
المدينة الآن خاوية من ضجيجها
بلا أضواء..
ولا عشاق..
ولا مهرجين..
بلا أشرار..
ولا كهنة
وحده جالس خلف الظلال في عربة رمادية كئيبة..
يهيمن النفي على الجملة الشعرية بسبب الإحساس الداخلي بالنفي، وشعوره بأنه محاصر ومحاط بالعزلة، ولابدّ والحالة هذه، من التعبير عن صورة شعرية، لكن بطريقة شبه قريبة من هذا الإحساس، فالسطر الأول يحيل هذا النص إلى السطر الأخير، والباقي واقع تحت سطوة النفي، وهو ما توحي به قصيدة (أسئلة الرماد) التي تتحدث عن الغريب، الذي يهيمن على الصور الشعرية في معظم المجموعة، حيث لغة الظلام وأجراسه في(السيدة التي صارت موسيقى البحر) فالكل معلق بالأحلام والأماني الغائبة، فالقمر أخضر (لون السواد، كما سُمي العراق بأرض السواد بسبب كثرة النخيل والخضرة) والقطارات راحلة، والأصوات متداخلة والموت الأخير. وفي قصيدة (ناقوس الغابة المظلمة) ثمة قوارب للغرباء، وزعيق للغربان، والرصيف عارٍ، ممّا يرسم للشجن صورة مهيمنة، حين يقول:
على الرصيف العاري..
إله يصلح للوهم والشجن
عجوز يختصر وجع العالم بعكازه
ووطن يبكي على وطن
الطريقة التي يكتب بها أوس حسن نصوصه لها علاقة بالحداثة الفائقة، وهي حداثة تتخلى عن ضوابط الكتابة المتعارف عليها، وتميل نحو السردية، والمفارقة بوصفها تعبيراً عن تجريبية متجددة في بناء القص السردي، في الاعتماد على أسلوب المشهد الشعري، ففي (أحلام قصيرة) الذي يتكون من عنوانين: هما (إشارة مؤجلة) و(سيرة القبيس بن صعصعة) في نوع من التجريب على اتجاهين:
الأول، الحداثة بوصفها اجتراحاً خالياً من الإحالات إلى الماضي، كما في العنوان الأول. الثاني، توظيف شخصية تراثية كرمز، كما في قوله:
«ما لم تذكره العرب في آثارها وأشعارها.. القبيس بن صعصعة. ملك ملوك الأرض وأشدهم بطشاً على وجه الإطلاق، إنّ بلاده المسورة بالرؤوس المعلقة على الرماح، بلاده المسورة بالنار والأشباح؛ صارت غباراً أحمرَ تذروه ريح الشمس».
ويقول في (الغريب الذي نسي ظله):
كان طفلاً يرسم شمساً وكوخاً وشجرةً
يرسم صوت أبيه.. ودمعة أمه..
وطائراً يشبه صمته في دفتر الغيوم
تبدو المفردات اللغوية بسيطة وعفوية، لكنها محمّلة بالدلالات الخصبة، في الحب وفي رسم الصورة الشعرية التي غالباً ما يكون تصويرها عبر الفعل المضارع المعبر عن الزمن الحاضر وديمومة الحياة ورهافتها.
العنوان المثير الذي اختاره أوس حسن لمجموعته هو (الغريب)، ثم أردفه بجملة تفسيرية (الذي نسي ظله). وهنا نتساءل:
ـ لماذا؟ وماذا يقصد بالظل؟
هل يقصد به الخيال المصاحب له، أو الذات التي تبددت تحت عبء الظروف، فلربما يشير إلى نسيان هويته، فالهوية هي ظل الإنسان ووجوده وخصوصيته، وقد اقترنت هذه الخصوصية بالصورة الشعرية وعلاقتها بالصورة الواقعية، حيث حصل اللقاء بين الشعر بوصفه خطاباً وجدانياً، والصورة بوصفها جسدا جمالياً، ومن هنا صارت الصورة هي التعبير عن التكوينات الأيقونية والتشكيلية واللونية، التي سادت النصوص الشعرية، حينما يتعلق الوجدان /العاطفة بالجانب الحسي الداخلي المتمثل بالصورة، وبالجانب اللوني /التشكيلي المتمثل بالإحالات الأيقونية والتكوينات الصورية التشكيلية. وقد تحيل الصورة بعض الأحيان إلى اللون، كما في (قمر أخضر) حيث يشكل اللون لعبة لونية مع الألوان الأخرى، كاللازورد والبياض، مقرونة بالموسيقى والتراتيل/ الأدعية، وهذا ما يجعل الجانب اللوني/ التشكيلي مترابطاً مع الجانب السمعي، فيقول:
ولا موسيقى الوقت..
أعادت لي تراتيل الجسد
تحاصرني عتمة البياض
بمعراجها المسجى..
لا أرى شيئاً سوى
صفير يئن على موائد الفناء
سوى ذلك الصوت قادماً إليّ من بعيد..
ذلك الصوت الممتد بين الأزل والأبد
وفي (السيدة التي صارت موسيقى للبحر) يقول:
في حقيبتي صورة لبحار غريب
صار سنديانة في جزيرة نائية..
صورة لمحارب قديم
صار طائراً حجرياً فوق قمتهِ..
وصورة أخرى للعالم الأبكم..
وهو يحدق في عيون الشمس
فتحولات الصورة لها صلة بالغربة، والبحر الذي يؤثر فيها، كما لها صلة بالتحولات من الأيقونة أو من سنديانة إلى محارب، ثم طائر حجري، ثم هلامية عن العالم الأخرس الذي لا يتكلم. وهنا نتساءل: لماذا يقترن اللون والصورة بالصوت؟ أعتقد أنّ الشاعر يقيم نصوصه على ثنائية الصورة والصوت، لأنه التعبير عن علاقة الصورة بالإنشاد، فالصورة تتعلق بالحداثة والإنشاد يتعلق بالقدم، فهو بالتالي مرهون بالاتصال بالماضي، مثلما هو مرهون بالاستجابة للحاضر وثقافة العصر، وتبدو جمله الشعرية مهذبة ومبنية بناءً جميلاً ومحكماً، وجملته هي تعبير عن صياغة عالية في رسم الصورة، وبناء العلاقة بين المفردات، لكنها ربما تستطيل لتمتد إلى أكثر من سطر، مقل (تحاصرني عتمة البياض/ بمعراجها المسجى)، فلماذا تحاصره ولماذا يقترن البياض بالعتمة؟ فالغريب يرى البياض معتماً، أو رمادياً، لأنّ صورة الحياة أمامه مرتبطة بالحركة.
وجملة (تحاصرني) تبدأ بفعل وفاعل ومفعول به تستطيل من خلال استخدام حرف الجر (الباء) كنوع من الحفاوة بعلاقة العروج بالأفول، فالعروج نوع من الاتصال الافتراضي القائم على الخيال والحلم، والتصور الشخصي، لكنه أنزله إلى واقعه فجعله مسجى، أو مقروناً بالنهايات والموت. كما جاء النفي لغرض ترسيخ الجانب السلبي، في الصورة، فالغربة تعني عدم الامتلاك، فلا بيت ولا مكان للعيش، وصوره متعلقة بأطياف الحلم أو الخيال، مثل جملة (ولا موسيقى الوقت../ أعادت لي تراتيل الجسد) و(لا أرى شيئاً سوى/ صفير يئن على موائد الفناء) هاتان الجملتان مسبوقتان بالنفي ومرتبطتان بالفعلين (أعادت، أرى).
في نصه (ضوء.. وظلال) ثمة جملة تبدأ بالفعل (ليس) لنفي النور والاحتفال بالظلال، وهذا هو شان الغريب، كما في قوله:
ليس للنور نورٌ كما صورته لنا الظلال، لكن لفظته
العتمة من رحمها.. قرر أن يخون الظلام.. وأن يضاجع الشمس
العارية إلى الأبد.
في محاولة منه للإجهاز على هاجس العتمة، قام بحركة معاكسة/ ضدية أسفرت عن الاتصال بالشمس، لكنه جعل هذا الاتصال جسدياً معها، بمعنى أنّ المكان لديه هو تعبير عن هاجس الحرمان والغربة التي تحاصره، أي أنّ الغربة هنا هي غربة الحرمان من مضاجعة الشمس، كما العروج إليها.
في قصيدة العنوان (الغريب الذي فقد ظله) انطلق من الرسم في طفولته، لكنه يفقد هويته /اسمه ويحرق أحلامه؛ ما يعني أنّ الصورة لديه قائمة على نزعة خاضعة لسلوك الغريب/المغترب، الذي فقد هويته في وطنه، لهذا يقول:
هل ترك قلبه يلطخ احمرار المدى
وأضاع اسمه بين العابرين؟
هل صار نجمة تتسكع على الرصيف؟
هل صار حجراً مبللاً بالألوان والموسيقى؟
ثم يستمر في التساؤل، حتى يتلاشى، لأنه لا يوجد من يرسمه سوى (ضباب العدم)، لذا تنتهي القصيدة بالقول:
الغريب الذي…
لا اسم له..
لا ظل له..
ولا زمان له
وهنا يفقد المكان والزمان وجودهما معاً، مع الاسم، ويفقد كل شيء حتى الألوان والظلال تتلاشى، وهنا يستمر فعل النفي قائماً لديه عبر أداة النفي (لا) لأن (لا) بالنسبة للغريب، لا اسم، لا مكان له، ولا زمان له، ولا هوية له، ولا لون له، ولا أهل له، ولا أصدقاء له؛ وهذا النفي تعبير عن خيبة حقيقية بالواقع الذي يعيش فيه.
______________
* كاتب عراقي
نقلاً عن: القدس العربي بالاتفاق مع الكاتب