حول القلق والعنف
رنا حتمل، فنانة تشكيلية سورية
- الجمعة 22 شباط 2019
هناك جزء من الشعراء والمفكرين الموهوبين يعتقدون أن مستقبل البشرية محكومٌ في شكله النهائي بالمغفرة والسلام إلا أن تراكم التجربة الإنسانية حسب وجهة نظرهم تحتاج لسنوات الزمن كي تصل لذلك المآل.
حسب اعتقادي إن استقرار أولئك النخبويين -إن جاز التعبير- وتصالحهم مع ذواتهم يدفعهم دائما لتصور أن الدنيا ستصبح مثاليةً يوماً من الأيام وبالتالي فإنهم يشعرون بالارتياح جراء تلك القناعة الراقية المسالمة.
أنا لست متصالحاً مع نفسي من هذه الناحية إذا كان ذلك يُسمى سلاماً نفسيّاً "وهذا ليس غريباً بالنسبة لمكتئب مثلي" بالنسبة لي أفضل الخوض في تعقيدات نفسي والتفكير في تداعيات خجلي المُربك على أن أقتنع أن ثمة سلامٌ بشري سيتحقق بعد ألاف السنوات ذلك لأني أرى أن –ما نشيت- السلام الأبدي المستقبلي الذي سيقوده الفكر القادم والخارق للعادة إنما هو نظرةٌ قلقةٌ بشكل اعتيادي لأنها تتوقع حدوث تجربة سلامٍ بعد مخاضٍ إنساني طويلٍ في الوقت الذي تموت فيه الشعوب المؤقتة جوعاً وحَرباً وتَلوثّاً.
إذ في هذه الحالة لا يمكنني المراهنة على الاحتمال العبقري القادم للبشرية فيما أرى الكوارث العصرية تحتدم هنا وهناك.
لماذا على عقل المرء أن يهتدي بأن المستقبل البشري سيكون على ما يرام بينما هو في الواقع كثير الشوائب والمحن المآسي لماذا كل هذه الثقة بسمو عقليتنا وبقدرتها على إيجاد خلاصها بينما تضمر أنفسنا تعقيداً لا مثيل له... لا يحق لنا وهنا لا أقصد النخبة الثقافية على وجه التحديد، عندما تفشل في إيجاد حلولٍ لعصرها الحالي ومآسيه أن تهتف بأن ثمة سلامٌ قادمٌ في طريقه للإنسان مع أن حركة الحياة تلمّح على الدوام أن ثمة جمالٌ ورخاء في طريقه إلينا.
هذا يذكّر بطريقةٍ ما بوضعية شاعرٍ أو مفكرٍ يشعر بألمٍ صادقٍ بشكله العام على المقهورين المسحوقين بينما لا يتقبّل ضمنيّا سلوكياتهم أو أي بادرةٍ عفويةٍ مباشرة تصدر عنهم، في هذه الحالة هو لا يتعاطف فعلياً مع حاجة اولئك الاشخاص للحياة الأفضل واللحظات السعيدة وإنما يتماهى جذرياً مع ألمٍ وشفقة نقيتن مزروعتين أصلاً في داخله فيربت عليهما بحنانٍ وبالتالي يتوقع السلام الأبدي لهما بعد أن يشعر بالإنهاك من تعقيدات تلك المشاعر المهيمنة؟
أحياناً أفكارنا تحمل رغبةً عميقةً بالخير ورفض الظلم لكنها لا تنضوي على سلامٍ حقيقي ملموس.
وفي أوقات كثيرة، تتحايل أفكارنا على لحظاتٍ مرهقة، مضطرين أن نعيشها عنوةً، ولكي نعيشها عنوة علينا أن نفكر بتفاصيلها، ومن خلال تلك التفاصيل تزدهر دعوتنا للنٌبل والانسجام في مواجهة الفراغ والشعور المٌنهك بالعدم.
والعدم هنا ليس الإحساس البارد باللاجدوى واللاشيء وإن كان ينضوي على ذلك، العدم في أبهى حالاته هو أن يتمرد الإنسان على كل شيء يضايق مخيلته أو يعرقل سلاسة لغته الجسدية وانسيابها.
إن لدى العقل البشري مفاجآتٌ عظيمةٌ قادمة وقدرةٌ جبّارة على تغيير الأحداث، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن قَدر العقل البشري هو السلام الصافي السرمدي، إن هدف العقل وخلوده هو في بحثه عن السلام وخلاص الوعي وليس في حتمية الوصول لذلك السلام.
يا لهول تعلّق الإنسان بالإنسان، أشعر بالفزع حول حقيقة احتياجنا لبعضنا كبشر.
أفكر بشعور الامتلاء والأمان الذي يحدث عندما نعانق أشخاصا نحبهم، هذه التفاصيل بالفعل تجعلنا نصمد ونعيش أكثر وتجعلنا نفكر ونؤمن بأن تلك المشاعر السحرية العطوفة يجب ألا تزول وهي تستحق أن نكافح طويلاً لأجلها.
إنّي أتيقن يوماً بعد يوم، بأن الكتابة والفن هما فِعل كاذب يتبعان على الدوام ظِل هواجسهما ولا يَنطقان بجوهر الحقيقة بل بِظلها، يلمسانها من بعيد، والذي يجعل كونهما مُلهمين ومٌشوّقين- أنهما يتوقعان دائماً الطريق الأقرب والأكثر حِلماً لتلك الحقيقة.