هل سيدفع الشّعر تجارباً إلى الشّهرة في الألفيّة الجديدة؟
محمود سعيد (1897 – 1964) - فنان تشكيلي مصري
- الجمعة 22 شباط 2019
يقول الشاعر أمل دنقل في لقاءٍ على شاشة التلفزيون المصّري، أجراهُ الشاعر والإعلامي فاروق شوشة، إنه "لم يكن يحلم سوى أن يكون شاعراً، لذا لم يمارس الصحافة أو أي عمل أدبي آخر، كتب الشعر والشعر فقط".
نبدأ هذه الرحلة من الهواجس التي طرحها "دنقل" في شهرة الشاعر وشعبيّته من جهة وباعتباره مغموراً من جهةٍ أخرى، في حين أن العديد ممن يكتبون الشعر يكتبون في ميادين أدبيّة أخرى، فما المشكلة المتعلّقة بجدوى شهرة الشاعر؟ هل المشكلة في الشّعر؟ أمّ في الشّعراء؟ أم تكمن المشكلة في القرّاء وما ينتقون؟
فيما نحاول البحث عن ارتباط جودة النص بالشهرة التي يتحصّل عليها الشعراء اليوم - وهي شهرة قليلة مقارنةً بعارضة أزياء "فاشينستا" على تطبيق انستغرام، نجد أن هذه المعادلة تفضي إلى نتيجة مفادها انعدام العلاقة بين الشهرة وجودة النص، ويُلقى اللوم كلّه على عمودِ عصرنا المتهالك، وسائلِ التواصلِ الاجتماعي، فيقول الشاعر "ابراهيم منصور": "لا أعتقد وجودَ علاقة ضروريّة بين الأمرين، وذلك لا ينفيها أيضاً، فكثيرٌ من الشعراء المعاصرين، وكذلك في تاريخنا الشعري، مغمورونَ على الرغم من أهميّتهم وخصوصيّة تجاربهم" ويضيف صاحب "تاء التأنيث الغائبة": الموضوع مرتبط بوجود أمور مرافقة لا علاقة لها بصميم العمليّة الشعريّة، تشكّل رافعةً إعلاميّةً لشعرٍ ينبغي أن يكون رائجاً ومنمّطاً، ومن دون نسيان درجة إقبال الجمهور على الشعر واختلافها من وقت لآخر".
وتقف الشاعرة "رفيقة المراوني" مع زميلها في ذات المكان، تقول: "ليس من المُفترض أن تكون شهرة الشاعر مقترنةً بالضرورة بجودة النص الشعري، لكن في ظلّ وجود منابر افتراضية كالفيسبوك و تويتر، أضحت شهرة الشاعر أحيانًا لا تعكس مطلقاً قيمة نصّه، و يتردد اسم كاتبه في كثير من المواقع، وينعكس هذا على نسبة مبيعات كتبه إذا ما فكر في إصدار ديوانٍ ما" وتعتقد صاحبة "دم التفاح": أن العادي انعكاس طبيعي ومباشر للسائد، بناءً على ذلك فإن القارئ العادي ينجذب إلى ما يحاكيه مباشرة "فبالضرورة سنجد أن العادي، والهابط، والمثير، أكثر سيطرة على اللحظة، والشهرة، لكن الحقيقي أكثر تجذراً وبقاءً" على حد تعبيرها.
ويتأسف الشاعر "حسام السراي" على هذه البُنية في قراءة المشهد الشعري الراهن، يقول: "للأسف هذه المُعادلة المُفترضة في السؤال غير متحققة اليوم بشكّلٍ قطعي، فقد انهارت الحواجز بين الأدب الرفيع والكتابة المُفتعلة".
ويؤكد صاحب "حيّ السماوات السبع": "أعني بالافتعال هنا ما يجري طرحه على إنّه أدب، فيتمّ خداع المتلقي على مستويين؛ مستوى القيمة الحقيقيّة للنصّ، ومستوى آخر يتعلّق بإيهام الجمهور غير المتابع بأنّ صاحب النصّ مُقتدر وذو وعيٍّ ثاقبٍ وموهبة، وما يحصل باستخدام التخادم الجاري بين كتّاب بعينهم في مواقع التواصل، وبتوظيف ذلك عبر اعجاباتٍ متبادلةٍ لا علاقة لها بالأصول الفنيّة التي يَحتكم إليها النقّاد والمعنيون بالأدب" بحسب رأيه.
ويعتقد "السراي" أن "مبعث الانهيار أيضاً الذي مثّله بعض الشعراء بتفكيرهم بالانتشار فقط، هو أنّ جمهور الأدب نفسه تراجعت ذائقته أمام الكوارث والفجائع العربيّة المتلاحقة..." على حد قوله.
أمّا محمد نصر الله مُقدم برنامج "دمشق المساء" فيميل إلى العودة إلى التقعيد أو وضع القواعد، فهو يعتبر أن الشهرة تعود إلى جودة النص فيما إذا كان المطلعون على النص مثقفون ومختصون، لا الجمهور العادي، يقول: "عوامل كثيرة تدخل في شهرة الشاعر، إلا أن جودة النص تبقى العنصر الأبرز في سبب شهرة هذا الشاعر أو ذاك، وتسويق الشاعر لدى جمهوره، فالرافعة الأساسيّة لسمعته هي ما يكتب، وإذا كان الذي يكتبه جيداً فالتأكيد هذا سيعطيها الدفعة الأولى باتجاه الشهرة، ونحن نتكلم هنا عن الشهرة الحقيقيّة بوجود وسط من المفترض أنه ذواق ونخبوي ومثقف، وليس وسطاً عادياً من الجمهور يوزع الشهرة على الشعراء وفق معايير لا تتوافق مع المعايير الأساسيّة".
تتنوّع الكتابة الأدبيّة لدى الشعراء، فهل توضع هذه ضمن خانة محاولة الشعراء الشهرة عن طريق كتابة أخرى غير الشّعر؟ على اعتبار أن هذا الأخير صار شبه مهجورٍ من الجمهور العام على الأقل. وهنا يحدد "نصر الله" إجابةً تطرح التساؤلات، وتحدد الأولويّات: "الاكتفاء بنوعٍ شعريٍّ واحدٍ وإتقان الكتابة فيه ستؤدي إلى الهدف المنشود، فالكتابة بالنهاية ليست ماراتون يركض الشعراء فيه ليحظوا بجائزة الجمهور، أمّا إذا كانت الموهبة متعددة، وهذا حالٌ آخر مختلف، فما المانع من الكتابة بشتى الطرق! أما أن نكتب بشتى الأنواع فقط لنكسب الشهرة ونحاصر الجمهور من كل الجهات فهذا برأيي من الشائع المغلوط" حسب تعبيره، وعلى هذه النقطة بالضبط يختلف معه كلٌّ من رفيقة المرواني وحسام السراي، فهما يطرحان أسماء لشعراء كتبوا في نمطين فأجادوا الكتابة، ولكن الحقيقة تبقى معلّقة فهل اشتهروا؟ تؤكد "المرواني": "هنالكَ من الشعراء من تميّزوا في كتابة الشعر والرواية على حدٍّ سواء، ومنهم الشاعر والروائي جهاد أبو حشيش والشاعر والروائي سفيان رجب. وليس الأمر هو أن تتقصد التنوّع بل أن تتمثل النوع الأدبي الذي تكتبه وتبرع فيه".
أمّا "السراي" فيضيف: "شعراء كُثر، في العالم وفي منطقتنا العربية، قدّموا اشتغالاتٍ متعدّدة في المسرح والنقد والقصة وحتّى الرواية. بودلير كتب النقد الفني، وسركون بولص كتب القصة كما في إصداره القصصي بعنوانه الساحر "عاصمة الأنفاس الأخيرة"... واليوم ما دام المستسهلون للشعر قد جلبوا لنا الأسى، وصار المشهد يتطلّب من الكاتب الجادّ إنتاجاً متجدّداً فيه تأويل وإفادة من التجربة الحياتيّة فكان لا بدّ من كتابة أخرى في مضمار ثانٍ غير الشعر، ليس بهدف الوصول للجمهور أولاً، إنّما كي يسجل الكاتب حضوراً" بحسب رأيه.
فيما يختصر "نصر الله" الأمر ليردّه إلى البحث عن الذات، على سعتها: "الشعر مرتبط تاريخيّاً بالذائقة العربيّة أكثر من بقيّة فنون الأدب، ولا توجد طريقة فنّيّة أقرب إلى القارئ العربي من الشعر، التنويع برأيي، سببه بحث الشاعر عن ذاته في أكثر من شكل لا أكثر".
ربما، تقتضي الحقيقة اليوم الاعتراف بانعدام الجماهيريّة التي حصل عليها كبار الشّعراء أمثال الشاعر الراحل نزار قباني، ولكن بالمقابل هل كان كلّ الجمهور يعي تماماً ما قاله نزار، وألا نعترف بأن المغنين خدموا القصيدة النزاريّة، إلى أن جاء الأمر فانحسرت الأضواء عن الشعراء لأسباب كثيرة منها السياسيّة، ولا يبقى لنا إلا كلمة "ربما" متكأ لكلّ الاستفسارات والنقاشات، فعالم اليوم تغزوه الافتراضات، وبين ليلة وضحاها يمكن لكائنٍ ما نيل شهرة واسعة أكثر من الأمهر في أحد الفنون الإبداعيّة، وليس الشعر وحسب، فالدائرة مفتوحة واحتمالاتها تكاد لا تنتهي.