كانت جميلة
فاتح المدرس (1922-1999) فنان سوري
- السبت 12 آذار 2022
لو بقيت المرأة وحدها على الكوكب، أيّ كوكب، لرأيتها تتقنُ فنّ السّحر كي تخترع الأدوات والوسائل لتزيّن نفسها، وتبدو بعينِ روحها "جميلة الجميلات".
ليسَ لأجلك تتجمّلُ، ولا لأجل أحد،
إنما لسلامها النفسي، وفطرتها الأولى، وانشدادها باتجاه خامة الروح الأصيلة.
لا تحصي المرأة أعوامها، بالسنوات، إنما بمثقال الحزن الذي يخدش مصباح فؤادها...
ولا تقيس العمر بالتواريخ، إنما بعدّاد الضحكات التي ترمّمُ تجاعيد بكائها...
ولا تتوارثُ النّساءُ أسرار الزينة، إنّما تبتكر فنونها، تبعاً لهندستها الجينيّة الخاصة بمذاقها الشخصيّ.
كل امرأة ذوّاقة، كل امرأة لها طقوس إحياء لجمالها المتفرّد...
جدتي كانت تحيي جمالها بالحنّاء، وعطر زهور الياسمين التي تدسّها بين أثوابها، وإيقاع "قبقابها" الخشبيّ، وهو يعرّفني طفلاً بأبسط لغة موسيقيّة خام.
أمّي، مثقفة بالجمال... عرّفتني بـ "كوكو شانيل"، وامتدحت أناقتها مراراً أمامي بتفاصيلها... كانت ولا زالت تحتفظُ بأجمل إطلالاتها من قصاصات الجرائد القديمة.
أمي، مثقفة بالعطور، في منتصف الثمانينيات، تزوجت وهي تحمل في حقائبها أجمل إصدارات ديور، والأوبيوم لـ"سان لوران"، والشاليمار...
كانت حقائبها تفيض بالقفازات الدانتيل، وفساتين الحرير المحبوكة على يد خيّاط عريق؛ هدايا أبي إليها حينما اختارته .
كانت خزانتها من أولى الخزانات التي شهدتُ فيها الدهشة، مقطّبةً بين سلسلة المونتو الأنيقة، وثياب الجلد، والكشمير.
...
جارتي، كانت تحيي جمالها الخاص برائحة التراب، ويدها الخضراء، المُحنّاة بعطر الليمون، والزيزفون، والبابونج...
وتلفّ وجهها المدوّر، بمنديل كريب، بلون الكريما العاجيّة... وعندما تقترب مني لتضمّني، كنت أشعر بغابة من اللوز تتجه صوبي...
كل التجاعيد التي كانت تدور حول وجهها، كانت مثل نقاط النجوم البعيدة وهي تراقصُ البدر...
كانت جميلة...
وكنا صغاراً، ندركُ الجمال بتفاصيله الصغيرة، بأنه لغة الفطرة لا غير.