الأحد 22 كانون الأول 2024 | 7:5 صباحاً بتوقيت دمشق
كنانة بسيم حمادي

جحيم دانتي: الاستقبال النقدي والتأثير

جحيم دانتي: الاستقبال النقدي والتأثير
جزء من تمثال دانتي أليغييري - معرض أوفيز في فلورنسا - إيطاليا
  • الأحد 19 أيلول 2021

*ديفيد لوموس

كان لدانتي والكوميديا الإلهية تأثير عميق على إنتاج الأدب، وممارسة النقد الأدبي في جميع أنحاء العالم الغربي منذ اللحظة الأولى لقراءة الكوميديا.
على الرغم من أن النقاد، والمعلقين عادة ما يتناولون العمل ككل، فإن المادة الأولى، -جحيم-، هي الجزء الذي لاقى الاستقبالَ النقدي الأكثر حماسة، وقد وَجدَت الحقبة الحديثة فيها مرآة يمكن أن تبحث في العديد من الرذائل والخطايا التي تعرّفها، كما وجدت فيها نسيجاً غامضاً من العقوبات الأصولية الغريبة عنها تماماً.
جذبَ الجحيم الشعراء المعاصرين من كل صوب، وبالأخص القطعتين الأخريين من الكوميديا، كمثالٍ على قوة الشعر التي تخلق العالم، وسموّ شاعرٍ بمنفاه الروحي، والوجودي، والسياسي.
كان دانتي بالنسبة لهم، مثالاً على كيفية تعامل الشاعر مع العالم وإصلاحه، وليس تمثيلَه فحسب، من خلال قوة الخيال الشعري، ولكي نفهم كيف تلقى النقاد والشعراء دانتي وقصيدته في القرنين العشرين والحادي والعشرين، علينا أن نلقي نظرة على التقليد النقدي الذي دام سبعمائة عام، والذي شكل المؤسسة الأكاديمية المقدسة لدراسات دانتي، وبهذه الطريقة، يمكننا أن نرى شبكات التفاهم التي تربط نقد دانتي عبر تاريخه.
تبدأ قصة الاستجابة النقدية لقصيدة دانتي بدانتي نفسه (أو شخص يكتب تحت اسم دانتي)، إذ كتب رسالة إلى راعيه في فيرونا "كانغراند ديلا سكالا"، عند انتهائه من آخر مادة من الكوميديا، والتي كرّسها للجنة (Paradiso)، وعلى الرغم من أن معظم الرسالة مخصصة لتفسير الجنة، فإنه يقدم العديد من المفاهيم المهمة لتاريخ نقد القصيدة ككل، وللنقد الأدبي بشكل عام.
صُمم هيكل الرسالة وفق المخطط الذي استُخدم في عصر دانتي لكتابة مقدمات للنصوص الكلاسيكية، مما يشير إلى أن عمله، وعلى الرغم من أنه باللغة العامية، فإنه يستحق، ويتطلب ذات الاهتمام كما لو أنه كُتب باللغة اللاتينية، ويوضح دانتي أهمية معنى القصيدة من خلال تطبيق النظام الرباعي أو (المستويات الأربعة) في الرمزية، والذي يستخدم عادة لتفسير الكتاب المقدس.
وفقاً لهذا النظام، قد يكون للنصوص عدة معانٍ: الحرفية أو التاريخية، المجازية (فيما يتعلق بحياة المسيح)، الأخلاقية أو الطوبولوجية (فيما يتعلق بأفعال الروح الفردية في هذه الحياة)، والوجودية (فيما يتعلق بحياة الروح القادمة)، وكمثال على هذه الطريقة التفسيرية، يحلل دانتي بإيجاز أول سطرين من المزمور 113، "عندما خرجت إسرائيل من مصر"، مما يتيح إمكانية مقارنة قصيدته، وتجربته الشخصية مع هذه الآيات من الكتاب المقدس، ومع ذلك، فإن تفسير عنوان القصيدة وموضوعها ضيق الأفق إلى حد ما، ولا يفسر الجدّة الجذرية للقصيدة بشكل كامل.
يشرح دانتي أن القصيدة هي كوميديا لأن "الموضوع في البداية مروّعٌ وكريه، كما الجحيم، ولكنه في النهاية سعيد، ومرغوب، ومريح كما لو أنها الجنة"، الموضوع، كما يكتبه هو حرفياً: "حالة الأرواح بعد الموت"، ولكن مجازياً "فإن المرء يستحق المكافأة أو العقاب بعدالة، وفقاً لحسناته أو سيئاته في ممارسة إرادته الحرة".
وبذلك فإن الموضوع المجازيّ للجحيم، سيكون أولئك الذين يستحقون العقاب بسبب ممارسة إرادتهم الحرة بشكل سيئ، ويصف دانتي وأتباعه العمَل بأنه ينتمي إلى مجال الأخلاق في معظم تعليقات العصور الوسطى على الأدب اللاتيني، مما يعطي غرضاً عملياً حتى في اللحظات الأكثر تجريدية.
خلاصة القول، سواء صيغت الكوميديا من قبل دانتي أم لا، فإن هذه السلسلة تثبت الكوميديا كعمل لاهوتي شعري تكمن حقيقته كخيال يقع في مكان ما بين الكتاب المقدس والإنيادة.
تم تحليل الكوميديا باعتبارها منتجاً ثقافياً فاصلاً في عصره مع "اكتشاف دانتي الحقيقي" من قبل "جيامباتيستا فيكو" (1668-1744) في القرن الثامن عشر، كان دانتي -بالنسبة لفيكو- هوميروس جديداً لعصر بربري ولدت فيه اللغة الشعرية للإيطاليين، وتمكن دانتي من خلال "خياله الرفيع"، من تقوية ثقافة عصره بلاغياً -من العادات، واللغة الشعبية، والمخاوف اللاهوتية- إلى لغة شعرية استمدت من جميع اللهجات الرئيسية في شبه الجزيرة.
كتب جوزيبي مازيني بحلول منتصف القرن التالي، أن التقليد النقدي في القصيدة أصبح طاغياً لدرجة أن المقاربات الصحيحة الوحيدة التي بقيت هي "دراسة حياة الشاعر وأعماله وتصحيح النص"، ورّداً على هذه السطوة، سعى الناقد الرومانسي الإيطالي "فرانشيسكو دي سانكتيس" (1817-83) إلى تجديد القصيدة، وترجمة جمالها إلى مصطلحات يمكن أن يفهمها "جيل جديد"، كان "دي سانكتيس" أسيراً لشعر الجحيم، إذ لامسَت مناجاةُ المذنبين، وتفاعل دانتي المؤثر معهم حساسيتَه الرومانسية، وكتب مقالات لا تنسى عن "فرانشيسكا دا ريميني"، و"فاريناتا ديغلي أوبيرتي"، "والكونت أوغولينو"، ركز فيها على المسالك الوجودية التي تتجلى فيها.
كان أهم الأمريكيين الذين جذَبهم دانتي في أوائل القرن العشرين هم المغتربون الذين يعيشون في أوروبا ، ت.س. إليوت (1888-1965)، وإزرا باوند (1885-1972)، وكتب كلاهما عن الكوميديا كنقاد وانخرطوا فيها كشعراء، يقدم باوند الكوميديا وفقاً لشروط الرواية لدى كانغراند في مقاله الأول عن دانتي في كتاب "روح الرومانسية" (1910)، ولكنه يفسر شخصية الحاج في مصطلحات عصرية نموذجية: الحاج هو "كل رجل" يسعى جاهداً لترك الجهل وراء "الضوء الواضح للفلسفة"، ويكتب باوند: "تصوردانتي الجحيم الحقيقي، والمطهر، والجنة كحالات، وليس أماكن "ويوصي القراء" أن يعتبروا وصفَ دانتي لأفعالِ وظروف الظلال، وصفاً للحالات العقلية للمرء في الحياة، وهذا يعني أن الذات الداخلية للمرء تقف بشكل واضح أمام أعين فكر دانتي، ويرى باوند أن لاهوت الكوميديا ليس له أهمية تذكر.
تعدّ قصيدة دانتي مثالاً على كيفية تفاعل الشعر مع عالم التاريخ الحي، من خلال توجيه عقل القارئ نحو عيوبه الأخلاقية، وبالنسبة لباوند فهي تعد المقياس الشعري والأدبي للعالم الحديث. تهتم قصيدة باوند الطويلة، (الكانتوس)، بالجحيم والمطهر بشكل خاص، وتبدأ بصورة هبوط إلى العالم السفلي على غرار الأوديسي، ولكنها مسيّسة، ومعنوية أكثر من الجحيم، ويختتمها بالحزن على أنه لم يكن قادراً على خلق جنة، وإنقاذ نفسه من وحل الجحيم، كما فعل دانتي.
على الرغم من أن الشعراء استمروا في قراءة دانتي وتأثروا بشعره طوال القرن العشرين، فإن المشاركة الملحمية للحداثة المبكرة مع الجحيم لم تعد أبداً، ولكن في أثناء ذلك، تطورت المشاركة الأكاديمية الأمريكية مع قصيدة دانتي إلى مؤسسة على قدم المساواة مع دراسات دانتي الإيطالية، ولكن بتعبيرها الخاص، وقد ركز نقد دانتي في القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، في معظمه على نفس المشاكل التي التي وجدت في الرسالة إلى كانغراند وفي التعليقات الأولى، وعلى نفس المخاوف المتعلقة بتكييف تلك المشاكل التي أثارت الشعراء منذ القرن التاسع عشر مع العصر الحديث.
في الواقع، يمكن وصف تاريخ نقد دانتي بأنه تباينٌ في مواضيع التاريخ، والشعر، واللاهوت وكيفية "جعله جديداً"، لاستخدام حداثية إزرا باوند في المعركة الحداثية.
_____________
*David Geoffrey Lummus: أستاذ مساعد للإيطالية في قسم اللغات والآداب الرومانسية في جامعة نوتردام. كان سابقا في أعضاء هيئة التدريس بجامعة ييل ثم في جامعة ستانفورد، حيث قام بتدريس الأدبين والثقافة الإيطالية الحديثة في العصور الوسطى.
رابط المقال الأصلي 
ترجمة عن الإنكليزية: كنانة حمادي