السبت 23 تشرين الثاني 2024 | 2:5 مساءً بتوقيت دمشق
باسم أحمد القاسم

قصيدة الهايكو هامشاً: القُربان والمَعبد، إيف بونفوا / محمّد عُضيمة*

قصيدة الهايكو هامشاً: القُربان والمَعبد، إيف بونفوا / محمّد عُضيمة*
من معابد جنوب اليابان، إنترنت
  • السبت 9 شباط 2019

(عن مقدّمة مشروع ديوان الشعر العربي الجديد)
إنّ نورساً يلوح من بعيد يمكن أن يشغل البحّارة للتفكر باليابسة القادمة التي تنتظر خطواتهم البكر عليها، فهل سأبحث عن نورسٍ لي لعلّه يستطيع أن يشغل بال الجمهور عنوان هذا البحث، يدفع للتفكير باليابسة الجديدة التي ربّما تغري بوضع خطواتنا البكر عليها وأعني بهذه اليابسة "مشروع ديوان الشعر العربي الجديد"
ولعلّي سأطلق نورساً لامثيل له والمتمثّل بقصيدة الهايكو اليابانيّة(1) لتحقيق هذا القصد، فالواضح لكلّ المهتمّين بالشأن الثقافي الأدبي العربي أن عدوى شعريّة اسمها قصيدة الهايكو اليابانيّة بدأت تتفاقم وتتفشى في صروح كلاسيكيتنا الشعريّة وحداثتنا على حد سواء بعد أن فعلت ما فعلته في دوائر النقد الأدبي والإبداعي الغربي، وهكذا سألوّح بهذا السؤال كـ نورس:
ما الذي يمكن أن يخشاه محمّد عُضيَمة على العرب الشعراء أو الذهنية الشعريّة العربيّة النقديّة في مقدّمات مشروع ديوان الشعر العربي الجديد التي افتتحها عام 2000، حين يبتعد عن إطلاق تسمية هايكو على النص العربي الجديد الذي يصبو إليه مشروعه الشعريّ أو بشكل أدق ما الذي جعله يرفض تداول تسمية "شعريّة الهايكو" في مشروعه ويقدّم عليها تسمية "الشعريّة الجديدة"؟
في دراسة سابقة سلّطنا الضوء على مكنونات هذه المقدّمات ونقاط علّامها المشتبكة(2) وقدمنا عرضاً يحفر في سُمك الخطاب الموجّه في مقدّمات المشروع فحصلنا على موادَّ خام ينشغل بها المكوّن الذهني العالمي للشعر منذ خمسة عقود عمليّاً ولكن على ما يبدو فإنّ "عضيمة" تجرّأ وعجن بطحينه الفكريّ رغيفَ الشعر العربي الجديد وملّحهُ بهذه "المواد الخام" ثمّ وضعه في فرن المثقّفين العرب فهل كان الفرنُ بارداً!
وهذه المواد الخام بلا شكّ ووفق المعطيات التي وضعتها في الدراسة إنّما تُستخرج من منجمٍ قصيٍّ وبعيد عن أن تقصده أو حتّى تشتهي التنقيب فيه دوائر "ميتافيزيقيا الشعريّة" الغربيّة والعربيّة على حد سواء وهو منجم جماليات الشعر الياباني التقليدي وبالتحديد نمط "الهايكو" تواكبه قصيدة "تانْكا"...
ثمّ هل هذه الحِيطة مارسها "عُضَيمة" لوحده أم معه آخرون، تلك الحيطة من بعض الركائز المنوطة بالهايكو اليابانيّة الكلاسيكيّة والتي يصعب علينا كأجانب عموماً أن نستوعبها كمتطلّبات داخل النص أو سابقة للنص بحيث أنّها تفضي إليه؟ أو أننا لا نقرّ بها ونخالفها الرأي!
يبدو أنّ ثمّة آخرون معه وهو من أحد مشاهير شعراء ونقاد الأدب في أوربّا ، ممن مارس عمليه استحلاب "الاكسير" من ثمرة الهايكو وثقافة الشعريّة اليابانيّة التقليديّة وحين أقول استحلاب فهذه عمليّة جد صعبة ودقيقة وتحتاج إلى مؤهلات اجرائيّة وخبرة في التداول المعرفي بينك وبين الآخر غير المؤتلف ولكن بكل الأحوال لابد أن أشير بأنّها لم تتم بقصد التقليد والمشابهة إنّما تم النظر إليها بأنّها عتبة الخلاص والنفوذ نحو الأفق الجديد بعد أن أعلنّا نحن العالم القرائي الناقد في مملكة الشعر بالتتابع: موت المؤلّف ثمّ موت الناقد ثمّ موت المنظومة.

     

القربان
على مذبح هذا البحث الذي نحن بصدده أريد أن أضع قرباناً أمام معابد أفكارنا كعرب لعلّها تفتح الباب الموصد في وجه تراتيل "عُضَيمة" الجديدة، وفي ذلك لن أجد مثل شخص جسّدَ ظاهرة في الشعر المعاصر إنّه (إيف بونفوا / Yves Bonnefoy- 1923-2016) نعم هو ذاته الشاعر والناقد الأدبي والمترجم الفرنسي والذي غالباً ما يستشهد بهذا الاسم كأعظم مؤلّفي فرنسا المعاصرة، وبالتأكيد تناول سيرة هذا العملاق ومنجزاته يحتاج إلى مساحة مجلّد ولكن الجانب الذي سنقتصه من هذه السيرة والمنجزات يتعلق بكأس "الساكي" من أرزّ الهايكو الياباني الذي شرب منه حتّى ثمل.
إنّ "إيف بونفوا" قبل عام 1961 في منجزاته في القراءة والدراسات والنقد الأدبي كان يمثل حالة نشطة لامثيل لها فتراه يدخل إلى صروح ثمّ يعود ليهدمها ويفتتها، يدخل في جدليات واستنباطات وكذلك استدراكات لظواهر ومدارس الشعر الأوربي في دوائر الميتافيزيقيا الغربيّة، كان يبهر الجميع بهذا المسّ الذي ينتاب فكرته عن الشعر والوجود، إلى أن أصدر في عام 1961 مجموعة من المقالات في مؤلّف أطلق عليه (البساطة الثانية) وهو يمثل نقطة الانطلاق والتأسيس لما ظهر لاحقاً كتسمية في عام 2011 في كتاب "البساطة الثانية: الشعر والنثر الجديدان"(3) .
نعم إنّه يقول " جديدان " وهي عبارة عن مختارات من قصائده تمتد ما بين عام 1991-2011، الواقع لا نستطيع أن نلقي القبض بدلائل موثّقة على تأثّرات إطّلاع "بونفوا" على الهايكو الياباني بشكل صريح قبل "البساطة الثانية" 1961 ولكن ثمّة ما كان بونفوا قد اطّلع عليه بلا شك، حيث في مجموعته "عن حركة وثبات Douve" والصادر عام 1953 أخذ الدارسون في عام 2018 نصوصاً من هذا الكتاب ليجدوا تشابها في الطول والفكرة مع نصوص شعراء هايكو يابانيين ومنهم الهايجن "ريوتا"، على كلّ حال لن نمكث طويلا هنا فالقادم أهم...
في عام 1968 يسافر إلى اليابان والهند كزائر عالمي لفترة وجيزة وبعد عودته من هناك بأربع سنوات ينطلق بمقالة إلى (ماتسو – باشو)** جدّ الهايكو الياباني بعنوان "الزهرة المزدوجة، الشعور الضيّق: السحابة" لينجز أربعة مقالات حول الهايكو الياباني بين عام 1972 -2010 في هذه الفترات حدثت غزارة بالإنتاج والنشر يتخلّلها تأثّر كبير وواضح بتحفة "ماتسو باشو" "رحلة الطريق الضيق إلى الشمال" فنجده على سبيل المثال لا الحصر يستحضرها في فنتازيا على هاملت في نهاية البساطة الثانية : "حكيم قديم في ثوب السفر... باشو ، دائم الخير". بعد ذلك بجملة أو اثنتين، يصور "شكسبير" نفسه وهو يمشي عبر "حجارة الزمن، أصوات الفضاء" ولولا ضيق المساحة لعرضنا الكثير الكثير.
حسناً هل نريد قرباً أكثر لا بأس:
يحصل "إيف بونفوا" على جائزة (ماساوكا – شيكي) *** العالميّة عام 2000 التي تمنحها أعلى هيئات وجمعيات الهايكو في اليابان لأولئك الذي لهم انجازات كبيرة في ثقافة الهايكو الياباني.
لا يكفي! حسناً سنأخذ دليلاً من الشعر، هناك حيث ذهب "بونفوا" ليعيش في أحضان الطبيعة (نيو إنجلاند) حيث أمضى لسنوات العديد من الرحلات الطويلة في غاباتها وحقولها الهادئة الريفية وغير المزينة مثل كلّ الرحّالة رهبان الهايكو ليخرج لنا بمجموعته عام 1991 بعنوان "بداية ونهاية الثلج " مجموعة من القصائد القصيرة والتي تم اختيارها في كتاب "البساطة الثانية" عام 2011، وسنأخذ منها على سبيل المثال(4):
قبل الفجر مباشرة
أنظر من خلال النافذة: الثلج
لابد أنّه توقّف
ثمّة رقعة من اللون الأزرق ،
تلمع أمام الأشجار
..
أتساءل عما إذا كان السنجاب
جارنا البسيط، ما زال نائماً
أو هل غادر بالفعل!

الحطب متشابكٌ عند العتبة
كيف سأتجول في هذا البرد؟
آه لحظة ثمّة مسارات صغيرة
عند الباب
ـ
وهكذا:
إنّ كلّ من له علاقة بالنقاش العالمي حول شعريّة الهايكو الياباني خصوصاً والثقافة الشعريّة اليابانيّة التقليديّة عموماً يمكن أن يقول في نفسه "لعمري إنّ بونفوا يقرأ طالع الشعر من كفّ الهايكو"!
ولا يعتقد أحد بأنّنا نعتمد على مقاطع انتقائيّة لنجيّرها لهدفنا في المقاربة... عليك فقط أن تطّلع على هذا المؤلّف الأخير لتقطع الشك باليقين.
حسناً...
هل العالم القرائي المنشغل بظاهرة "بونفوا" عموماً ينتظر أحد من العرب ليهديه هذه المحصّلة؟ بالتأكيد لا، إنّهم مؤخراً يضعون مشروع "إيف بونفوا" تحت مجهر الهايكو وثقافة الشعريّة اليابانيّة ليجدوا بأنّه يدخل في حالة اجتهاد هائل عليها، ولكن لا شيء يمنع أحدنا من مواكبة هذا المسار الناقد لهذه الظاهرة كعرب إلّا باب المعبد الذي أوصدناه على أنفسنا!
وللدقة والانصاف: الكثير من الغربيين ممن تناول بونفوا كظاهرة أدبيّة كان يضع مقدّمات ودراسات لم تتحصل على الربط بين هذه الرؤية القرائيّة ومشروع "بونفوا" وأذكر منهم "جان ستاروبنسكي"(5) الذي وضع مقدّمة تحليليّة مبدعة للأعمال الكاملة لـ"بونفوا" والتي ترجمها إلى العربيّة الشاعر السوري أدونيس(6) وهو بصدد ترجمة الأعمال الكاملة عام 1986، حيث نجد أنّه في آخر المقدّمة بشكل سريع يتحدث عن "الغيمة الحمراء" بتقاطع الرؤية بين "ماتسو – باشو" وإيف بونفوا حول نقطة واحدة وهي فكرة الواقع وبأنّ هذا المظهر المحيط بنا من الموجودات (الطبيعة) ليس سوى المكان الذي يكمن فيه الاغواء الأبدي وبأنّه تمظهر لحقيقة جوهريّة لابد من الالتباس معها ولننظر إلى استشهاد "بنسكي" بهذا السطر من الغيمة الحمراء:
"أكان هناك حاجةٌ إلى أكثر من بضعة تجعدات في الماء لكي ترجّ فكرةُ اللحظة هدوءَ الجوهر؟" عند هذا السطر الأخير أعتقد كلّ عربي متابع للهايكو سيحبس أنفاسه...
الواقع لو كان الزمن الذي عاشه "جان ستاروبنسكي" يضجّ كما هو اليوم بهذه الدراسات والمجلّدات الهائلة حول موضوعة الهايكو وشخصية "ماتسو – باشو"
لوضع دراسته التحليلية هذه كلّها في سلّة ما يعرف الآن عالميّاً "شعريّة الموضوع" وهي صلب الهايكو وهي التحفة التي خرج بها "باشو" إلى العالم ولما اكتفى بمرور على عجلٍ، ولكن هذا ما تمّ استدراكه في أيامنا هذه بطريقة عالية المهارة والدقّة من قبل درّاس الهايكو ونقّاده الجدد استطاعوا من خلالها محاكمة ظاهرة "بونفوا" تحت قوس محكمة الهايكو وخرجوا بنتيجة وهي: إنّ بونفوا بالتأكيد ليس شاعر هايكو وشعره ليس هايكو ولم يدعوا للهايكو ولكنّه ببساطة يذوّب من إكسير الهايكو في روح مشروعه الأدبي الشعري في ما أطلق عليه مؤخراً "الشعر والنثر الجديدان" وهو يعلم ذلك، وهذا ما قدّمته بكفاءة يرفع لها القبعة دراسة صدرت عام 2018 بعنوان (إيف بونفوا، الهايكو والتأمل في الوجود) للباحثة في الشعر الفرنسي (آن غوريو) (7)

الصلاة
في صلاتنا الفكريّة على ظاهرة الراحل "إيف بونفوا" نرتّل معطيات الخلاصة بأنّ "بونفوا" انطلق من احتجاجه الصارخ على دوائر الفكر الميتافيزيقي الغربيّة في نظرتها عن الشعر وليس كذلك بل على (ما الشعر ومن الشاعر) وهو يدخل في مواجهات حادّة عن مقولاتهم المفاهيمية عن لغة الشعر.
وكما يصفها "غطرسة المفاهيم" ويشرع بمحاكمات متتالية وقع أهمها على أعلام المدرسة السورياليّة وما تلاها من ارتدادات المدارس الأخرى، لقد كان معهم في حالة هجاء فكري حاد، وبلا شك وكما أوضحنا سالفاً فإنّه في خضم هذا التفاعل الحيوي عثر بطريقة أو بأخرى على "شعريّة الهايكو" فوجد فيها وفي "ماتسو -باشو" المطيّة والراحلة التي سبقته إلى وجهة الشعر المغاير، فاستفاد من خارطتها ولكنّه اتجه إلى تسمية "النص الشعري الجديد" وترك تسمية الهايكو وراء ظهره وهو كما أعتقد محقّ تماماً في ذلك لا بل إنّ مكانته المرموقة وقدراته النقدية تؤهله ليكون كذلك لأنّه بكل بساطة يخالف مُرتكزاً جوهرياً في الهايكو الياباني إذا تم سحبه من النص أو من اعتقاد كاتب النص فإنّ هذا المنتج لا ينبغي أن نطلق عليه "هايكو" ، وهكذا في آخر المشوار من العقدين الأخيرين الذين عاشهما "بونفوا" يخرج بمؤلف وبوصف له عريض لم يجد له من بُد إلّا أن يكون "الشعر والنثر الجديدان" عام 2011.
على باب المعبد
ما من أمّة شعر إلّا ولمبدعيها معبد أفكار ثمّ لا يلبث هؤلاء المبدعون حتّى يختارون من بينهم كهنةً وعرّافين يوصدون باب المعبد على أنفسهم وبين الفينة والأخرى يخرجون لتلاوة صلواتهم على الأمّة... بالمقابل ومن عصر إلا عصر لابدّ وأن يظهر صوتٌ من أمّة الشعر خارج المعبد بصلاة جديدة وتقف على باب المعبد، إنّ النتيجة يمكن للجميع ان يتحدث عنها، فالتاريخ زاخر بنتائج متنوعة عن ردّة فعل "الكهنة" على امتداد هذا التاريخ الشعري العالمي، ولكن حالة واحدة أخذناها عن "بونفوا" وحتى تعرف ماذا فعل المعبد معه، عليك فقط أن تلجأ إلى العم "غوغل" لتندهش حقّاً بالنتيجة...
والآن
ما الذي حدث معك يا محمّد عُضَيمة!

من دوائر الفكر النقدي الأدبي والشعري العربيّة إلى جامعات باريس والأستذة في النتاج الشعري الصوفي إلى مؤلّفات وترجمات نكهتها مختلفة و منعطفاتها حادّة، أعلم أعلم يا أصدقائي أنّ هذه الحياة الثقافيّة ربّما خاض مثيلها الكثير من العرب ولكن دعوني أصل إلى القفزة "القدريّة" التي ألقت به استاذاً محاضراً في جامعات طوكيو منذ عام 1990 وحتّى يومنا هذا ليخرج بترسانة من الترجمات والمؤلّفات * ناهزت 18 كتاب تُعنى بشعريّة وأدبية الثقافة اليابانيّة التقليديّة والمعاصرة بأعلى مستوياتها وفي مقدّمات عديدة يشرح فيها مقارباته البنّاءة مع الذهنيّة العربيّة الابداعيّة وهذا ما قدّمتُه في دراسة سابقة تختص بهذا النشاط (8)
ثمّ ماذا؟
ثمّ يأتي عام 2000 ليبدأ تلاوة صلاة جديدة يقف بها أمام باب معبد أمّتنا الشعريّة بعنوان "مشروع ديوان الشعر العربي الجديد" وحين نأتي على صفة "جديد" ستقوم عليها القيامة، ولكن ربّما سيختلف الوضع بعد أن رأينا أنّ ذات الصفة صرّح بها "بونفوا" ولكن بونفوا أطلقها عام 2011 أي بفارق عقد من الزمن.
قل لي الآن:
لقد وصلتَ بصلاتك حتى اليوم إلى الجزء السابع، فما الذي فعله المعبد وكهنته وعرّافوه؟ جلّ ما أعرفه أنّهم أرسلوا كوماندس الصحافة لتسفك دمَ المشروع، فليقل لي أحدٌ ما إن كان يعلم شيئاً آخر؟
صريرُ الباب:
أنا لست في داخل المعبد لأفتح بابه فنسمع الصرير، سأحاول فقط ان أقلّد صوت الصرير لعلّي أشجّع الكهنة فأقول:
في مقدّمات مشروع ديوان الشعر العربي الجديد جميعها لن تجدَ محمّد عُضَيمة
لا شاعر هايكو ولا يدعو لكتابة الهايكو ولا يريد أن يكون الساموراي العربي ولا الياباني السوري ولا...إلخ من تلك الإرهاصات التي أحاطه بها كوماندوس الصحافة العربيّة، وببساطة تأتي هنا الإجابة ليس لأفّسر هذا النسق فقط بل تأتي عن السؤال الذي افتتحنا به البحث وهي ببساطة: إنّ نص محمّد عضيمة المنشود من وجهة نظري لا يتبنّى مقولتان جوهريّتان عن الهايكو الياباني تلك التي حين لا تتوفر في نص شعري كان بثلاثة أسطر أو أكثر فإنّه لن يكون "هايكو" ، إنّه لا يناقشها في المقدّمة بالمطلق بل لا تعنيه أصلاً في مشروعه، وهذا ما نحتاج من أجله مناسبة أخرى لنتداوله...
وهكذا
ليس ثمّة إلّا نقاشاً محتدماً وعربيّاً بامتياز ولننتبه بأنني لا أقول عربيّ من باب "الأصالويّة" وإنّما لأنّه يلبس لباس راهنيّة الوعي العربي بالشعر بجميع تأثّراتها الغربيّة والعربية المعاصرة يضعنا أمام الحالة العاجزة على حدّ تعبيره عن إحداث فارقاً جماليّاً في القيمة الشعريّة ويهجو حالة الشيخوخة الشعريّة والمراوحة في المكان طارحاً مجموعة من الرؤى المنفتحة على النقاش.
ولعلّ أبرز عبارة رأيتها في المقدّمة فيها الدعوة للتشاركيّة وصراحة الذات العارفة
حين قال في المقدّمة المخصصة لشعراء بلاد الشام : "إنّما أعطي طرف الخيط ولا أعطي الخيط كلّه"، هذه إذاً البداية وتحتاج إلى جهد تداولي يفتح الباب على مصراعيه باتجاه مسرب جديد يمنح القيمة الجماليّة للشعر العربي أفقاً جديداً ويحتفظ بكامل الاجلال والاحترام لآفاق (معاصرة) سابقة، بعضها غابت شمسها وبعضها أوشكت شمسها على المغيب...
مصيرُ القربان
عليك أن تقرأ "بونفوا" ثمّ عليك أن تقرأ عُضيمة لتجد أنّ الحالة لا تتشابه إلّا في إضافة المادّة الخام وتختلف الحالة بمنطلق الهمّ المعرفي لكليهما وكذلك بالمعطيات، وهذه حالة نشأ عليها الشعر وتنظيراته منذ أزل، فمن لم يستشهد بمقولات الإغريق واليونان حول موضوعة الشعر! من لم يقتبس منها ويجتهد عليها، إنّ الثقافة الشعريّة اليابانية لا تقل منزلة عن هذه المقولات "الخام" بل هي وبرأيي الشخصي أكثر أهميّة ومغامرة وجدّة.
ومن لم يجتهد على مقولات الشعريّة العالميّة المعاصرة في الحداثة وما بعدها ويقاربها من مقولات القرطاجني والجرجاني وابن جني وابن رشيق وغيرهم ليمهّد إلى حداثة شعريّة عربيّة معاصرة تواكب تلك التي اندلعت في الغرب كما فعل أدونيس في كتابه ديوان الشعر العربي!
لقد أخذ "إيف بونفوا" بهمّه المعرفي الذي يخصّه فرصتَه ونصيبَه من هذه المواد الخام بعد أن عثر على "الهايكو" وأيقونته "ماتسو – باشو" فكان ما كان حين وقف أمام باب المعبد وبدون قرابين، ومحمّد عضيمة بهمّه المعرفي الذي يخصّه(9) لم يعثر على إيف بونفوا ولا على الهايكو، ببساطة و بالصدفة عثر أرخبيلُ اليابان عليه...
وفي جزئيّة من الكلام خاصّة ومحدّدة بدقة تلك التي تتعلق "بالمادة الخام" للشعريّة اليابانيّة التقليديّة المنوطة بشعر الهايكو والتانكا أقول معتقداً:
إنّ "عضيمة" يتفوّق على "إيف بونفوا" من ناحية الاحاطة والادراك بها إذا أردنا أن نتحدث من باب نظريّة "سيسيولوجيا الأدب" التي تبلور هذه المواد الخام حيث إنّها خصوصاً في اليابان تكون منتج وعي جماعي لا تنفصل مشيمته عن اليومي المعاش في الحياة اليابانيّة منذ القرن السابع الميلادي.
وبالتالي معايشة هذا المجتمع هي المفتاح الذهبي لجوهر هذه الشعريّة وليس شيئاً آخر وبالتالي حضورها عند عُضَيمة كان أكثر وضوحاً وبساطة وعمقاً.
إنّه لم يطّلع عليها بزيارة موجزة ولا بكتابات مترجمة عنها كما حدث لـ "إيف بونفوا" إنّه غارقٌ في خضمّها منذ عقدين ونيّف ومعه همّه المعرفي الخاص الذي اندلع في ذهنه قبل اليابان وسابقاً لهذه الصدفة، أضف أنّه يتلقّى باللغة الأمّ مباشرة...
الخلاصة:
بين جنبات مقدّمة مشروع ديوان الشعر العربي ثمّة ما نختلف به مع مؤلّفها ولا نتفق عليه بلا ريب ومن وجهة نظري أقصد ذاك الجانب المتعلّق بموجبات هذا الطرح الجديد والحُجج التي قد تدفعنا للسعي باتجاهه و لكن إنّ الطرح بحدّ ذاته وبالأثاث الجديد الذي أراد به صاحبنا من النص الشعر العربي أنّ يشيّد قيمة جماليّة جديدة فإنّه حريٌّ بمعابد أفكارنا أن تفتح له الباب...
يا أيّها المعبد... افتح المعبد
لقد أحضرت لك قرباناً "فرنسيّاً" ، نار المجد التي أكلته تصل ألسنتها إلى السماء
يا أيّها المعبد: أيّ معبد أنت حين لا تفتح بابك إلّا بالقرابين!

_____________________ 

الهوامش والروابط:

* محمّد عُضَيمة: شاعر ومترجم وناقد سوري، ولد في قرية (رويسة الحجل) على الساحل السوري، حصل على شهادة في اللغة العربية من جامعة دمشق ثم اتسع ولعه ذاك ليشمل الفنون الكبرى للغة الشعر والنقد والترجمة، شد الرحال إلى فرنسا وأقام ودرس في عاصمتها حتى حصل على الدكتوراه، ثمّ عاش متنقلا بعدها بين باريس والجزائر. ذهب إلى اليابان سنة 1990 كأستاذ لتدريس اللغة العربية لطلاب جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية، وقد انتهى به المقام هناك واستقر بها.

* إيف بونفوا ‏ شاعر وناقد أدبي ومترجم أدبي فرنسي، من رواد شعراء فرنسا في القرن العشرين. له أثر هام على الأدب الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية. له عدد من الدراسات في الفنون وتاريخ الفن، وعدد من الترجمات الأدبية، الميلاد: 24 يونيو 1923، تور، فرنسا / الوفاة: 1 يوليو 2016، باريس، فرنسا

** ماتسوؤ – باشو / اسمه الأصلي ماتسوو مانوفوسا عاش (1644-1694 م) رحل إلى "كيوتو" (العاصمة الإمبراطورية) ليتابع دراسته في الآداب. عام 1681 م، فضل حياة العزلة، فانزوى بالقرب من "إيدو" (طوكيو اليوم) في مكان أطلق عليه اسم "صومعة شجرة الموز" (باشو-آن)، ومنها استمد لقبه (باشو)

*** ماساأوكا – تشيكي / ولد ماساوكا في 17 سبتمبر 1867 في ماتسوياما، في محافظة إهيمه الحالية. الاسم الأصلي هو ماساوكا نوبورو، ويعتبر شيكي كشخصية رئيسية في تطور الشعر الهايكو الحديث مؤسس أهم مجلّة أدبية في الهايكو Hototogisu

(1) قصيدة الهايكو: نص شعري ياباني مؤلّف من 17 صوتاً وفق طبيعة اللغة اليابانية يكتب يابانيا سطراً واحداً... بدأ معه المبتكر ماتسو باشو 1644 م بمرحلة " الهوكو " ثمّ " الهايكاي " ثم أسماه شيكي ماساأوكا " هايكو " 1867 م

(2) رابط الدراسة كاملة http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=621706

(3) Second Simplicity : New Poetry and Prose, 1991-2011

(4)ترجمة هويت روجرز Hoyt Rogers في مقدّمة ترجمته لكتاب البساطة الثانية : الشعر والنثر الجديدان نشرت في مجلّة In Their Own Words
(5) جان ستاروبنسكي. Jean Starobinski هو عضو في Académie des Sciences Morales et Politiques (أحد مكونات معهد فرنسا ) وغيرها من الأكاديميات الفرنسية والأوروبية والأمريكية. حصل على شهادات فخرية (من جامعة الشرف) من العديد من الجامعات في أوروبا وأمريكا وقد كتب أعمالًا بارزة في الأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر - بما في ذلك الأعمال الخاصة بالكتاب جان جاك روسو ودينيس ديديروت وفولتير.

(6) ترجمة الأعمال الكاملة مع المقدّمة صدرت عن وزارة الثقافة في سورية.

(7) آن جوريو، "إيف بونفوا، الهايكو والتأمل في الوجود" في الشعر الحديث والتأمل ، وقائع أيام الدراسة المنظمة في جامعة روان في 21 مارس 2017 و 19 مارس 2018 ، نشرها كريستوف لاموت (إريك ) وتييري روجر (CEREDI).

منشورات CEREDI الرقمية، "إجراءات الندوة وأيام الدراسة (ISSN 1775-4054)”، العدد 21، 2018.

(8) رابط الدراسة كاملة  http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=618966 

(9) وددت الإشارة هنا إلى أنّ ثمّة أس معرفي يتعلّق بموضوعة الأدب الصوفي في شعريته وإشاراته اللغوية الموجزة والمكثّفة قام د. محمّد عضيمة بالاشتغال عليه على مدى بعيد من الزمان وتدرسيه في الجامعات العربيّة وهو مغاير تماماً للحالة الموجودة عند إيف بونفوا في بداية انطلاقه الفكري وتأثّراته بمحيطه الفكري الميتافيزيقي.

حول مشروع الشعر العربي الجديد، يقول عضمية: (بدأ المشروع أواخر سنة 1997 عندما شعرت أن مقترحا جديدا لقراءة شعرنا الحديث، المغلق على نفسه، بهذه الطريقة سوف يفتح أكثر من باب للكتابة والتواصل ببساطة وهدوء وبلا ضجيج، نشر الكتاب الأول منه والخاص بالعراق سنة 2000. ثم تتالت الأجزاء اللاحقة حتى وصلت إلى الكتاب السابع الخاص بسعدي يوسف الصادر عن دار التكوين سنة 2017، قد يتواجد في المكتبات العامة).