أرواح على هيئة أنثى
غوستاف كليمنت ( 1862 - 1918) فنان ألماني
- السبت 1 أيار 2021
لا تتحدثوا عن المسافات، ثمة أنثى في البعيد تحترف الشوق والحياة، تبعث في عينيها بحر بيروت وسيلاً من حبات الزيتون الجبلي، في غمازتها أناقة الغياب، لذا لا تتحدثوا عن المسافات لأنها عادة ما تختصر كل البُعد بابتسامة بعيدة تطلقها مرة من الشمس، ومرة أخرى من النجوم، يمكن مشاهدة خطواتها بعد أن تعبر من أحزان نهر بردى، ويستطيع أي عاشق تلمس عطرها على كراسي العابرين، فهي عنوان مستمر للشهوة والأحلام...
تعترف دائماً بالأثر الفيروزي لأغاني الصباح، فتدندن (يا مينا الحبايب يا بيروت..) ويرد عليها صقيع دمشق (عندي ثقة فيك.. والله رح موت فيك..).. أنثى تعرف كيف تستنهض الكلمات دون أن تتكلم، تشير إلى اللغة أن تأخذ صيغة الدوخان في بلاغة عينيها، وتتساقط كل فكرة من شأنها استدعاء الحب أو حتى الثقة.. كأنها هبوب الخريف المتأخر، كأنها دفاتر مراهقة لطلاب مشاغبين، بقدر ماهي سرية، بقدر ما تفضحها خصلات شعرها (الكيرلي)... يشبهها النثر بسرديته وذكائه، ولا تعترف عادة بالحداثة أو مفردات الانعطافات التاريخية، لأن الطبيعة العاصفة لا تعترف سوى بسحرها وغضبها وضجيجها الورقي هنا في النص وفي عمق القلب أحياناً..
قلتُ لها لا صوت لك، أجابت بوردة، قال لها الضوء أنا ظلك، أجابت بفستان أبيض من الغيوم، قالت لها أرصفة المدينة أنا ضياعك، فنثرت على حطامها أشجار الحنين.. من سهول البقاع إلى شوارع باب توما يمكن لهذه الأنثى أن تصدح بروحها رغم الحواجز والحدود، تعبر مثل ذرة تراب، وتنسج شبكة ألعابها على طول جدار المدينة العتيقة، الأبواب السبعة تعرفها جيداً وتحفظ تاريخ قرطيها، أصوات الفوارغ من الرصاص تنحني لعذرية أصابعها، في انحنائها أمومة الكون، وعلى ذراعيها وشم شهي لحكاية شهرزاد...
لم يخبرها أحد حتى الآن أنها جاءت إلى عالمي، ونامت على كتف القصيدة، نعاس يأخذها إلى كتبي، ورغبة مجنونة تستحوذ على مخيلتها، ترى كيف تسرق من مكتبتي قصائد (الرسولة بشعرها الطويل) لأنسي الحاج؟ كيف تستدرج إلى حقائبها لهفتي واحتفالي بحضورها الملائكي؟ كانت تغفو على كلماتي، وتبحث في مناماتها عن باب دمشقي قديم يطل على الحياة...!؟
تغادر في لحظة مغلقة كل نوافذ التواصل، ستمضي بعد قليل إلى فراشها البعيد، هناك في الجنوب، ستكون حقلاً من النعناع، وستكتب عنها طيور الأرض حكاية قصيرة للضحك، إنها تعرف كيف تضحك، وغيابها يمنح النص نضوجاً وكبرياء، إنه صوتها هنا، على هيئة شخص يكتب، ثمة انفجار على أطراف الريف قربي، وأنا لا أستطيع أن أنهي مكالمتي مع الجحيم، لقد ارتعدت أجفانها خوفاً وهي تهمس عبر النوافذ الافتراضية: (تعال لننسى..)!!
عندما أخبرتها عن بحر غزة الذي أخفت فيه أجمل تلويحة يدٍ لحبيبها، أكدت للقصيدة أنه مضى، ولم يعد حتى الآن، ابتلعته المعاهدات الفاشلة بين الحب والصداقة، وهي لازالت وحدها مثل عبير أبدي يزداد تركيزه كلما ابتعد إلى منفاه الحجري بين الحطب والماء المقطر وخليط الورود البرية، هي كذلك تماماً ستبكي قليلاً قرب رسالتي، وستعرف أنها في يوم ما جاءت بهيئة السيدة العذراء تجرّ خلفها جراح العالم ومناديل الأطفال الذين اصطادتهم رصاصات لئيمة بالخطأ...
في التحريض على الكتابة، قليلاً ما أبحث عن المسافات التي يمكن أن تشعل النقطة الأولى، مسافات الآخر، النص، التفصيل، الكائن، الدهشة، الأنثى، الجمال، وهنا لم أكتب عن أحد، إنما أستحضر روحاً تطاردني في كل لحظة، تطارد مخيلتي وتضربها على خدها لتستيقظ.. محض خيال سيجعلني أبتسم قليلاً، وأعيش في الليالي كوابيس لا تنتهي عن الفراق والوحشة والصقيع والانفجارات العنيفة... عن تلك العذراء وعن فساتين سهرتها المغرورة، عني بكل أسف، عن ركامي المتصاعد نحو الرعب والهروب.. لا أعرف إن كنت قد كتبت هذه الكلمات أم لم أكتب...! لكني متأكد من وجودي في زاوية ما على مفرق الأوجاع أراقب ابتعاد صاحبة هذه الأوهام في حين يمشي على جسدي جيش من الخيبة والفقراء...
2012
من كتاب: قبل أن تمتلك الأرض - يوميات شعرية - دمشق 2019