السبت 21 كانون الأول 2024 | 2:56 مساءً بتوقيت دمشق
أضواء المدينة للشعر ودراساته

عن الشعراء كمترجمين

عن الشعراء كمترجمين
  د.محمد عضيمة - شاعر ومترجم سوري يعيش في اليابان.
  • الأحد 20 كانون الأول 2020


صديقي العزيز
بالعكس تماما، ما أراه أنا على أنه ظاهرة بمنتهى الصحية هو ترجمة الشعر العالمي اليوم إلى اللغة العربية ومن اللغات الأم دون أي وسيط، ومن قبل الشعراء أنفسهم، وليس من قبل مترجمين يتقنون اللغتين فقط دون أن تكون لهم علاقة حميمة بالشعر وبأسرار الكتابة الشعرية. غالبية شعرائنا المعاصرين اليوم، ومن جميع الأجيال تقريبا، يعرفون جيدا لغة أجنبية أو لغتين غير لغتهم، ولاسيما رعيل الرواد من مؤسسي حركة الحداثة الشعرية تحديدا: يوسف الخال، أدونيس، أنسي الحاج، نذير العظمة، شوقي أبي شقرا، فؤاد رفقة، خليل حاوي، كمال خيربك، بدر شاكر السياب، بلند الحيدري، جبرا ابراهيم جبرا، سعدي يوسف، صلاح فائق وغيرهم، وغيرهم من التيارات الشعرية الأخرى. هؤلاء، وغيرهم، ليسوا مزحة في عالم الشعر العربي الحديث، ومعرفة كل منهم بلغة أجنبية، أو أكثر، لم تكن للبريستيج، بل كانوا يدركون ضرورتها وأهميتها ومعنى استثمارها في العمل الثقافي عموما، والعمل الشعري تحديدا. لا يمكن الحديث عن الحركة الشعرية العربية المعاصرة، دون التوقف عند هذا الجانب والتركيز عليه وعلى دوره في حسم الكثير من الخيارات الشعرية لدى كل واحد من هذه الأسماء. فلكلٍ منها، ومن غيرها لاحقا وحتى الآن، تجربة خاصة في ترجمة الشعر ونقله إلى العربية. وهذا لا يمر على الذات مرور الكرام، بل يترك ندوبا جمالية لا مفرّ منها. هذه الندوب هي التي كانت تدفع، ولا تزال أحيانا، إلى اتهام الشعر الحديث بعشرات التهم، منها على الأقل التغريب و تخريب الذائقة الجمالية، أو تشويه المفهوم الجمالي القديم للشعر.

والطريف في الأمر هو أن هذه التهم كانت تصدر، في غالب الأحيان، عن شعراء ونقاد لا يعرفون سوى العربية. ويمكن فهم موقف عبد المعطي حجازي السلبي، حتى الآن، من قصيدة النثر ضمن هذا الإطار. فهو لا يعرف قطعا سوى العربية، مع أنه يزعم معرفة الفرنسية لأنه عاش فترة من الزمن هناك، لكنه لم يتجاوز عبارات التحية والوداع. ولو كان غير ذلك، لكان وقع في إغراء نقل الشعر الفرنسي إلى العربية. لأن الترجمة إلى اللغة الأم إغراء لا يعادله إغراء آخر سوى الإبداع. ومن يتقن لغة غير لغته من المبدعين، يدرك جيدا ما أقول، ويشعر بضرورة نقل ما يستطيع من هذه اللغة إلى لغته الأم. تتحول اللغة الأجنبية في هذه الحالة إلى شوكة في الخاصرة لا تكف عن الوخز، ليلا ونهاراً، مادام هناك أشياء يرى أنها تحتاج إلى ترجمة، إلى حدٍّ ينسى نفسه كشاعر بلغته الأم. وضمن هذا الإطار أيضاً، إطار الجهل باللغات الأخرى وبالتالي الثقافات الأخرى، يجب أن نفهم المواقف السلبية لكثير من الشعراء والنقاد والمثقفين التقليديين، ليس من قصيدة النثر وحسب، بل ومن أغلب المفاهيم المعرفية الحديثة.

أعتقد أن اللغة الشعرية العربية تعيش، منذ منتصف القرن الماضي وحتى الآن، حالة تلقيح، مدروسة ومنتظمة، من اللغات الأخرى لم تعشها في التاريخ، وذلك على يد أبنائها من الشعراء أنفسهم. هذه الظاهرة جديدة جدا إذا ما أخذنا بالاعتبار اشتغال العربية على الشعر وفي الشعر منذ خمسة عشر قرنا وأكثر. لا نعرف في تاريخنا الشعري ظاهرة مماثلة. نعرف ظاهرة تشجيع الترجمة أيام المأمون ومن قبله أيام المنصور، واستمرار الأمر حتى أيام هارون الرشيد، ولكن كان ذلك يخص الآثار الفلسفية والعلمية والفلكية والطب والرياضيات وغيرها، يعني كان يخص تقريبا كل شيء ما عدا الشعر والفنون الأخرى كالمسرح مثلا. تلك اللغات، العالمية آنذاك، اليونانية والسريانية والحبشية والعبرية والفارسية والقبطية والسنسكريتية، التي كانوا يحترمون انجازاتها العملية البحتة، ويدفعون للمترجم عن إحداها وزنه ذهبا، ألم يكن فيها نصوص شعرية تستحق النقل إلى لغة العرب؟ أم كان في الأمر شيء من القول إن الشعر للعرب والعلوم لغيرهم، على ما نقرأ في الأخبار والأحاديث المتواترة، يعني كان عندهم منفخة شعرية أكثر من اليوم. ألم يكن الأمر يعني شعراء العربية آنذاك، وقبل وبعد ذاك؟ هل نستطيع أن نحاسبهم اليوم على هذا الخطأ الكبير؟ هل يعقل أن تلك اللغات، أو بعضها على الأقل، كانت بتلك الأهمية ولم ينتبه إلى ذلك الشعراء أو بعض الشعراء. هل كانوا يعرفون لغات غير العربية؟ لماذا يلف الغموض هذا الجانب الأساسي من علاقة الشعراء العرب القدامى بغيرهم من شعراء الأمم الأخرى؟ هل يعقل أن واحدا مثل المتنبي، الذي دار أصقاع الأرض، كان مقتصرا على العربية؟

لم أكن أتوقع الوصول إلى طرح هذه الأسئلة، وغيرها مما يمكن طرحه، على شعرائنا القدامى. لذلك أتمنى أن أسمع وجهة نظرك حول الموضوع. على أية حال، أعرف أن هالة القداسة التي تحيط باللغة العربية، وتحديدا على صعيد الشعر، هي ما يفسر هجوم الجماعات السلفية على الشعر الحديث، بجميع تياراته، وعدم الاعتراف به كشعر حتى الآن، واعتباره بضاعة غربية مستوردة تخرب اللغة وتفسد الأجيال. لعل هذا ما كان يخافه شعراؤنا القدامى ويحسبون حسابه!!.

تدوينة نشرها الشاعر على صفحته في فيسبوك وهي من كتاب (محمد عُضيمة، سوريا أو مرافئ الموت،ط1،دار التكوين ،دمشق،2018)