الأحد 22 كانون الأول 2024 | 10:32 مساءً بتوقيت دمشق
فريد حسن ياغي

متى ظهرت اللهجات المحكيّة؟

متى ظهرت اللهجات المحكيّة؟
صالح الهجر - فنان سوري.
  • الخميس 15 تشرين الأول 2020

أهمّ بكتابة عمل يعيش أبطاله في القرن السابع عشر الميلاديّ، وهنا بدأتُ أسأل نفسي من باب الفضول أيّ أنواع المحكيّة يتحدثون؟
فعدتُ أبحث في تاريخ اللهجات العربيّة؛ فوجدتُ كلاماً تقليديّاً كأنْ يقال أنّ جزيرة العرب لم تكن على لهجة واحدة بل على لهجات عدّة، وهنا استشهدَ الكاتب بأبيات للحارث بن حلّزة اليشكري التي نعرفها جميعاً، حيث يقول _الحارث الذي ينتمي لقبيلة بكر بن وائل_:
"إنّ أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها"
وهنا نلاحظ أنّه رفع ونصب وجرّ الأسماء الخمسة بالألف وهذا لا يصحّ في لهجة قريش؛ إذ يجب أن يقال في لسانهم
إنّ أباها وأبا أبيها قد بلغا في المجد غايتيها
..
ولهجة تميم حيث يقول أهلها (أكلوني البراغيث) بدل (أكلتني البراغيث) و(ذهبن الفتيات) بدل (ذهبتْ الفتيات) أي أن نجمع الفعل عند تقدّمه على اسمٍ مجموع..
وطيّئ التي كانت تثنّي الأمر للمفرد كأن تقول: سافرا يا أخي..
وذكر العيني في شرحه لقاموس أبي النجم:
أنّ العصبة القحطانيّة بشكل عام كانت تتعامل مع الأسماء الخمسة بشكل مخالف؛ فتلحق الضمير بظهر الاسم من غير علامة إعراب
كقول رؤبة بن العجاج:
بأبه اقتدى عدي في الكرم
ومن يشابه أبه فما ظلم
.....
حتى ذهب الشارحون إلى أنّ القرآن ذاته لم ينزل بلغة قريش كقول الآية:
"إنّ هذا لساحران"
والصحيح في لهجة قريش: إنّ هذين لساحران
كما وردتْ آية أخرى تقول: "أكله الذئب"
والقرشيّون يقولون (الذيب) ولا يقولون الذئب!
والباحث يقول أنّ سبب ورود الآية على هذا الشكل أنّ ناقلها في زمن عثمان بن عفان نقلها بلسانه لا بلسان النبي، وهذا بحث آخر يمكن لنا أن نفتحه (كيف لفظ النبي القرآن وكيف نقله أصحابه بعد موته بعشرين عاماً ومنها غضب عبد الله بن مسعود؟)
هذا الذي قرأته بالقدر الذي أمتعني بالقدر الذي خيّب أملي؛ فأنا لم أجد ضالتي هنا، فهذه خلافات بسيطة بين الفصحى والفصحى، ضالّتي في السؤال التالي: متى ظهرت لهجة أهل الشام ومصر والمغرب؟ (هي اللهجات الي منحكيها اليوم.. أو دي اللهجات الي منتكلمها دي الوقتي)
لذا أردتُ البحث في كلام موثّق، فعلمتُ أنني لن أجد ذلك إلا من خلال البحث عن تاريخ الشعر المحكي، وهنا وجدتُ البدائع!
الموضوع على الشكل التالي:
اليوم حين أسمع اللغة الألمانيّة أعرف منذ الحرف الأوّل أنّ المتحدّث تركي أو روسي أو بولندي أو إيطالي أو عربي وهذا الأخير أقاطعه وأقول له، (احكي عربي أنا كمان عربي) فيقول لي: (كيف عرفت؟!) ولا غرابة في ذلك فلكنة اللغة تدلّ...
على ما يبدو أنّه بعد الفتح تماماً كانت سوريا تتحدّث السريانيّة وكل من تعلّم العربيّة من السريان تحدّثوها بلهجة قريبة من لهجة سوريا اليوم، وأمازيغ المغرب تحدّثوا العربيّة بلهجة أهل المغرب منذ اليوم الأوّل، وأقباط مصر تحدّثوا اللهجة المصريّة فوراً، وأهل اليمن الذين كانوا يتحدّثون اللغة الشحريّة تحدّثوا العربيّة بلكنة خاصّة.
وقد يقول قائل: وما سبب اختلاف لهجات أهل الخليج؟!
يردّ الجواب الصادم.. الجزيرة العربيّة لم تكن تتحدّث اللغة العربيّة، ولم يكن كامل سكّانها من العرب ببساطة، فمعظم سكّان الجزيرة يتحدّثون اللغات التالية (المهريّة والحرسونيّة والباراثيّة ولغة الهيبيوت والتجريّة والأكديّة والهرريّة) وهذه لغات سامية قريبة من الآراميّة.
ولغات أخرى مثل (البلوشيّة واللواتيّة والفارسيّة) وهي لغات من جذور هندوأوربية، والباحث يجد أنّ العرب في جزيرة العرب لا يتعدّون ال20% من سكّانها يوم صدر الإسلام، وأنّ أصحاب اللغات الأخرى تعلّموا العربيّة كلغة أخرى قبل الإسلام فقط للتعاملات التجاريّة.
هذا يعني أنّ الصورة النمطيّة التي تعلّمناها في المدارس حتى حول جزيرة العرب كانت خدعة كبرى.
وبالعودة للهجات هذا الزمن فإنّ اللهجات في سوريا ومصر والعراق تعمّقت مع الزمن أكثر فأكثر
وأوّل ما دوّن من زجل الأندلس ما يلي:
يقول مدغليس أحد شعراء الأندلس في القرن العاشر:
"ورذاذ يدق ينزِل، وشعاع الشمس يِضرَب
تشوف الواحد يفضض وترى الآخر يذهب
والنبات يسكر ويشرب والغصون ترقص وتِطرب
وتريد تيجي لينا وبعدين تستحي وتهرب".
...
وفي مثال آخر لأبي الحسن الشستري
شويخ من أرض مكناس في وسط الأسواق يغنّي:
"آش علي من الناس وآش على الناس منّي
هيك عشت بمكناس وكد هان هوني
آش علي من الناس وآش على الناس لوني"
....
لاحظوا اللهجة المغاربيّة الواضحة في لسان أهل الأندلس منذ البداية، أي أنّ ابن زيدون لم يتحدّث كما ظننا في المسلسلات، بل كان يقول: (آش علي وشو تريد) كما يتحدّث إخواننا المغاربة اليوم
...
أدري أنني أدرج بعض الغرائب، ولكن واقع الحال هكذا
والآن بتّ أفهم كيف كانت تعرفُ العرب عربها من مستعربيها
...
حاولتُ البحث في الزجل السوريّ، والمحكي المصريّ ولكنّني لم أجد شيئاً وهذا محزن!
أرجو أن ينجز بعض الباحثين أبحاثاً في هذا الخصوص
...
نهاية الكلام هذه التي نسميها لغة عربيّة فصحى انتصرت بحكم السيف كما تنتصر اللغة الإنجليزيّة اليوم بحكم السيف ذاته.