أيتها العاصمة..
دمشق 2015.
- الأحد 11 تشرين الأول 2020
ماذا سنكتب للموت المجاني أيتها المدينة التي تركت لنا عبء الاختناق بتفاصيلها وألغازها؟ من سيلتقطنا من الأرض حين نترك أرواحنا مغروسة في جذور الشوارع والأشجار والحدائق الكئيبة؟ سنقرر لاحقاً يا صديقتي الذاكرة، لنصرخ الآن في وجه الألوان القاتمة التي تكتب فينا يومياتها... لنتدفق نحو موقع الجريمة ونحيط القاتل بأظافرنا قبل أن تصبح الجثث هواء المدينة الوحيد...
سأثق بالنصوص المنتظرة وسأمضي إلى خراب الشاشات، سأدقق بوقاحة الشمس التي لا تشبه كثيراً جبن الرصاص، وسألوح للسماء لعلها تنزل قليلاً إلى جحيمنا وترطب احتراقنا الطويل...
أعطِني ما تبقى لديك من أحزان، وانشر ديوان العشوائيات المهدّد يا صديقي، لم يعُد بإمكاني الشّعر بعد الآن! قلّم مخالب خوفنا فوق السيارات المفخخة والقذائف الطائشة، وغطِّ أشلاء المارة بأوراق الكبّاد، استأجر من الشام القديمة بعض نافوراتها اليابسة ومرّن الماء والدم على الخفقان بين الضحية والضحية...
سأمدد أنفاسي في مستنقع بردى السياحي، وأشتري لله ربطة عنق مناسبة ليزور الشهداء والمشردين، سأقف مثل أحدب الكنائس على قمة برج دمشق وألوح بثيابي لعل هذا الدم ينتظر قليلاً قبل أن يغطي مساحات المدن والأرياف المسحوقة...
مفتت أنا كحبات الرمل المحترقة، حاولت أن أحصي عدد السبطانات التي يمكن أن تخطئ هدفها وتصيب الهواء، فبدت لي كأنها دهر انتظار وشلال من رؤوس الأطفال المشوهين...
حلمت أن قصائد الكواكب السيّارة تتساقط على أفواهنا، المدارات الفضائية كلها تحت أمر كحولنا، سنوقف كل البيوت أمامنا على ركبها، ونختار وكراً شرساً للحطام والدموع والقصائد النزقة...
سنقود العالم نحو آبار الشعر، وسنرمم السماء والأنبياء والمفقودين، للورود مزهريات أخرى هي فوهة الدبابة، وللجثث شكلٌ سرّي هو صوت الكمنجات التي توقظ صمتها بينما تلتصق تفاصيلها على أطراف الأرصفة...
كيف يمرّ الهلع عارياً من فضيحته؟ ونحن لازلنا نبحث في حفرة الانفجار عن دفاتر البكاء وأقلام الرصاص حيث اختفت أيادي الأطفال التي كانت تلوح للحاجز...
صور أفسدتها الشمس الواضحة، وشخوص تركوا وجههم في مهب الأرقام المضاعفة للموتى، كلهم أعادوا للخبر حقوقه وذابوا في نيران الأصدقاء...
أيها النص لماذا عليّ أن أكون دائماً الشاهد والضحية؟ لماذا دائماً تزهق أصابعي وضعفي وتجرني إلى الاعتراف...؟ أيها النص أنا حيّ المزرعة الجريح...
أنا جسر الموت الممتد إلى الأيام الماضية... أيها النص الخائف منّا لا تكتب عن أحلامنا نحن مجرد كلمات على كعب كتابك المثقب بشظايا التفجيرات الأخيرة... أيها النص لا تكتب نعوتنا يوماً لأننا خالدون في نحيبك..
الشوارع مثل أصابعها ناعمة وعميقة وبسيطة في زحام فراغها، ثمة ألم في الصباحات التي تستيقظ على فوضى الدخان، العيون تراقب المتاريس جيداً بينما في الجنوب يفك أزرار قميصه ليكشف عن جراحه...
المتحلق الجنوبي يكفكف أذرعنا المتطايرة وكورنيش الميدان يلفّ رماده حول رؤوسنا، نحن الراقصين على المشاهدات والانهيارات الكبيرة للبشر، نحن الذين نعرف ترجمة الحطام والشيخوخة المبكرة، نحن الذين سنكبر قبل أوان المشمش ونضوج الصرخات...
سنجمع الأمكنة في درج الغبار، وسنوزع الليمون على نعوش الخريف، سنبتلع كل حبوب النوم حتى يستيقظ الشعراء والمشعوذون على أثير شخيرنا، لن نشرب الماء بعد اليوم فالعيون أتقنت الارتواء من الضوء.. لن نستمع إلى هدير الطائرات فالأصوات التي تعصف بأحشائنا تجاوزت جدار الصوت...
قلتُ لكِ إن الحواجز لا يمكنها أن تلتقط شيئاً... ها هو الحزن يتسلل إلى فراشك وقماشك الحائر، وها هي عيناك توغلان في قلبي كعاصفة ثلجية... الشهوات تتسع في فراقنا والعناق يمضي نحو عناوين الكارثة...
الصاعق اللئيم سحبه القدر عنوةً، والقلم المفخخ بالصمت لا يصلح للكتابة على حيطان الجسد، تذاكر باص النقل الداخلي تملأ تشكيل اسمكِ في جيوب المارة.. يا دمشق التي تأخذ كل شيء منّا متى سنغادر ألحان المقابر...؟ متى سنصبح شِعراً مضحكاً للأطفال تلقيه عليهم قبعات الرحمة من الهاون والديناميت...؟
من كتاب: قبل أن تمتلك الأرض - يوميات شعرية - دمشق 2019