طريق الحب هو ذاته طريق الحرب
هيثم الخطيب، فنان فلسطيني.
- السبت 4 تموز 2020
غربتي كبرت في داخلي كسرطان يتسلل على مهل ولا شفاء منها...
حاولت أن تعالجها الغريبة فشقت مكان الالم كي تستخرج خلاياه الداشرة المتشعبة كشقوق الارض اليباس وقد ظنت أنها استأصلتها وشفتني لكنها ما إن أغلقت جرحي العميق حتى انتشرت الغربة آخذةً في طريقها كل ما بقي رمق الكلام...
هكذا هي الغربة تستشري على حين غرة ولا شفاء منها؛ ويَنْحِلُ الجسد شيئا فشيئا فمتى تهدأ هذي الروح المتفلتة من هذا الجسد وتهيم في ملكوتها شهابا يلمع ثم ينطفئ مرة واحدة دون سابق حدس وتصعد روحا وضعت في هذا القمقم فلقد أصبح هذا العالم ثقيلا أكثر مما ينبغي ولم يعد هناك موضع أصبع لا ألم فيه وهذه النفس لا تطمأن ولا تعود، هي معلقة في طريق الطير حيث بوصلة السرب هو حدسه الفاصل بين يقين الأرض وسرابها بين جنوبها وشمالها، هو خيط لا أبيض ولا أسود هو موات اللون في الأغاني وانسداد أفق الرؤى ونحول الصوت بعد الحرب، هو خط الصدى حين يبول كلب يرسم الحدَّ بين أرض النبوءات التي منحت الآلهة بها وعدا للحرب وبين أرض المرويات القديمة بنسائها اللاتي كلما عطشن حملن إناء الفخار المعجون بحناء الأساطير ونقوش جداتهن اللاتي أورثنهن قدَّ سروٍ نحيلٍ وضفائر طويلة مثل عواء ذئب وحيد في البراري وخصر فرس مضمر على غواية الصوت ووصايا زيت اللوز وعطر الليمون عند حافة ماءٍ ما إن يدخلنه و يغطسن فيه حتى تفوح منهن رائحة النداء فيهبط المحاربون كالقدر من جبال الجليل وقد طالت لحاهم واغبرت رؤوسهم المتلفعة بكوفية مرقشة، وقد طفت شهوة الحياة من عيون براقة، وأرواح متوثبة كالنمور لروح الليمون في حنايا أجساد حبيباتهن و حين انتبذ كل واحد منهم تنهيدة ماء اسندت كل امرأة منهن ظهرها على صدر حبيبها تتمسح بصدره مثل قطة تموء بغنج وامسكت كل منهن يد رجلها وخرجت من الماء رويدا رويدا تاركة غواية شعرها الطافي وراءها فوق الماء والقمر يضيء ظهرها العاري ويكشف شيئا فشيئا عن مفترق روادفٍ بضةٍ تهتز وترتج كلما خطت على اليابسة ورذاذ الماء ينتثر قوسا دون قزحٍ حول آثار أقدامهن الحافية... إلى أن اختفين وراء أشجار الدلب فامتشق الرجال أسلحتهم السمراء واشتبكن معهن من نقطة الصفر...
وبعد أن امتلأت جرارهن وأرواحهن عُدْنَ من النبع يهزجن ورائحة الحب تفوح من أجسادهن.. ولم يعرفن أن الحب حين يثب من العيون كغزال لا يرصده الذئب لكنه يشم رائحة خوفه من التفاتاته يومها اكتشف الغزاة طريق النبع فتتبعوا رائحة الليمون وهناك دارت معركة خالدة من معارك الرجال الخارجين توا من الحب، الرجال الذين صعدوا إلى جبال الجليل ولم يعودوا، أما النساء وبعد خريف وثلجين عدن إلى النبع يهزجن و يمسكن آنية الفخار بيد واطفالهن باليد الأخرى كي يسري طريق النبع في دمائهم حين يكبرون وكي ينقشن على أقدام أطفالهن طريق المحاربين ال ما زالوا في الجبال وكي يمشي الاطفال في نفس الطريق ويدربوا حدسهم ويقينهم أن طريق الحب هو ذاته طريق الحرب...