الجمعة 22 تشرين الثاني 2024 | 0:38 صباحاً بتوقيت دمشق
ولاء الصوّاف

أطلقْ ساقَيكَ للرِّيحِ

 أطلقْ ساقَيكَ للرِّيحِ
ميسون مصالحة، فنانة أردنية.
  • الثلاثاء 23 حزيران 2020

حصانُ الأطفالِ الخشبيِّ
راهبُ جيادِ الحربِ
لِذكرى جُنودِ الكتيبةِ الخامسةِ في حَرْبِنا الثانية:
زهرة البيبون، شجرةِ السّنديان، ليمونِ شَهربان... وَلي أنا.
أنا حصانُ الأطفالِ الخشَبيِّ، المبتلّ بالصراخِ، مثل غيمةٍ فرَّتْ من عينيِّ الحربِ، بأجنحةٍ مَثنى وثلاث.
أبي كُرسيٌّ عتيقٌ، ومن بقاياه كنتُ، يمتطيني الدَّهرُ وأَصهَلُ، بيني وبين فارسي لا أحدَ... حبلي على الغاربِ، أعدو وشجنُ الطيرِ المفجوعِ برؤوسِ التلالِ الحليقةِ يتبعُني، فمي عرَبة كرزٍ بليدَةٍ، يلوكُ الحكايا ولفافاتِ التبغِ والرَّصاص، لساني بنكهةِ اللَّيمونِ، أسناني ثائرةٌ، أوتارُ حنجرتي خيولٌ تعدو خلفَ التُّوتِ البرّيِّ والحليبِ النافِرِ مِنْ ثدي الأرضِ، على شفتيَّ تنامُ آلاف الحُروبِ، كتائبُ دَهاءٍ، سَرايا غِواياتٍ، أرتالُ دَسائِسَ، ولفيفٌ من مكائِد.
لذا أغلقتُ فمي بأربطةِ بَساطيلِ الجُندِ وإلى الأبد.
أنا حصانُ الأطفالِ الخشبيِّ، راهبُ جيادِ الحربِ، تحتَ عباءةِ الرّاهبِ، أخفيتُ مزامير أبي وزبدَ البحرِ وشَرَفَ القبيلةِ، رُطبَ مريمَ وجَاري البَتولِ، حُزْنَ الأراجيحِ وهي تَنفضُ زَغَبَ الطَّيرِ عن أكتافها، أغنياتي التي هَبَطتْ معي بصحبةِ التُّفاحِ، الصمت الذي وقفَ طويلاً على بابي، حارساً لصوتي، أخفيتُ غُبارَ أسْلافي، حينَ طقطقَ الجَّمرُ تحتَ أقدامِهم، نَزَعوا سورةَ التَّوبةِ من أعناقِهم، ونَثَروا قياماتِهم على الدُّروبِ، أخفيتُ الأعينَ التي فاضتْ من خشيةِ الظَّلموت، جَواري الخليفةِ، غِلمانَ الحَريمِ، وما عَلِقَ بمناقيرِ الحَمامِ، من فتوحاتِ الشيخِ الدوزني في حيِّ الشُّهداءِ، تحتَ عباءةِ الرَّاهبِ، أخفيتُ عيونَ النخلِ بنبيذِهنَّ الساخنِ الهاطلِ من شَهقةٍ قُبيلَ صَلاةِ الخوفِ، أخفيتُ تَراتيلَ الغرقى في وحلِ السَّوادِ، إله باب– إيلو؛ حارسَ جَبَلِ القُمامةِ، وكاتمَ سرِّ الرَّصاصِ.
أنا حصانُ الأطفالِ الخَشبيّ، مُناضلٌ بطعمِ الكاكاو، بينَ حوافري الآن آخر لُفافةِ تبغٍ، بعدَها أشعِلُ رأسيَ الثوريَّ، المتخم بالفاقةِ والنارنجِ، بجمرِ الشفاهِ والمعنى المبجّلِ، أدخّنُهُ وأرميهِ كعقبِ سيجارةٍ، لتسحَقَهُ أقدامُ المارَّةِ وهيَ في طريقِها إلى الله..
لوّحْ بيديكَ وقلْ وداعاً.. إنّها هجرتكَ الأَخيرة.
ولاء الصَّواف
تَذكّرْ -وأنتَ تطلقُ ساقيكَ للرِّيحِ- أنّكَ شَجرة
وعشّ اليمامِ قائمٌ على رأسِكَ وعلى رأسِكَ تَنامُ الغَيمة
تَذكّرْ.. خلفَ المتاريسِ مَن قايضَ الحلمَ بالرصاصِ، الخُبزَ بالكَلماتِ،
الزهرَ بالشَجنِ، ووجهَ الحبيبةِ بالرِّيحِ!
تَذكّرْ.. الأرض، كلّ الأرضِ؛ حَبّة ندى في خريفٍ أسمرَ تَنامُ على شَفَةِ أُنثى
تَذكّرْ.. لا الغيمُ يلقّنُ العابرينَ مَعنى السَّبيلِ،
ولا البابُ يَفهمُ طرقاتِ السّائلِ عن قوتٍ للعيالِ
تَذكّرْ.. ظلُّكَ الوارف لا يخشى اللّيل، صَمتُكَ المجنونُ يَمرحُ في البرّيةِ وقوسُ اللهِ يَنمو على شَفَتيكَ مثلَ لبلابٍ حزين.. لوّحْ بيديكَ .. السماءُ غَجريّة .. ناعمة كريشِ النَّعام
كم مرةً عليكَ أن تَلمسَ وَجهَ الغيبِ؟!
وكمْ مرةً عليَّ ألّا أدَعَكَ تَغيبُ!
وأُعلّقُ على جسدي ما تراكَمَ من خَطاياكَ..
تَذكّرْ.. صندوقَكَ الخَشَبيّ المرصَّع بالندوبِ حيثُ تخبّئ نثارَ الضوءِ المُتساقِطِ مِنْ رفيفِ أجنحةِ الجنيّاتِ، وحيثُ تَنامُ أسنانُكَ اللَّبنيةُ التي قَذفتَها ذاتَ صيفٍ بوجهِ الشَّمسِ طمعاً بسنِّ الغَزالِ..
وأنتَ تقودُ درّاجتَكَ الهَوائيَّةَ
على ظهرِ موجةٍ زرقاءَ في بَحْرٍ من قُرنْفلٍ وآسٍ
تَذكَّرْ أنَكَ حبّة لؤلؤٍ في عَينِ أمّكَ الثكلى
دعْ فَمكَ بكلماتِهِ الغاربةِ يَلوكُ الظُّلمةَ ويلفظُها بقايا ظلالٍ متراشقةٍ.. لا تنكأُ جرحَ الجُّوعِ فيكَ، دَعْهُ يَنام على صدركَ المُثقَلِ بنياشينِ العَوزِ.. العشبُ يقرأُ تفاصيلَ أقدامِكَ وأنتَ تَعْدو.. وأنتَ تَعْدو على الصِّراطِ المشْدودِ بينَ العشبِ وقَدميكَ؛ تَذكّرْ ما عَلِقَ من غُبارِ الحروبِ فيها وما عَلِقَ على جبهتكَ من أثرِ الصَّهيلِ.. ومن سَماءِ حجرتِكَ المليئَةِ بالثقوبِ، المبتلّةِ بالوَجَعِ، يسيلُ صَداكَ، يَرقدُ بجوارِ أحلامِكَ البَرْبريّةِ وقميصكَ المعفّرُ بالكافُورِ.. الكونُ أصغرُ من قِنِّ الدَجاجِ .. فغيابُكَ أكبرُ.. هِجرةُ طائرِ السَّمانِ الأخيرَةِ لا تشبهُ موتَكَ أمسِ ولا موتَكَ الآن.. قُل لمن اغتال الحلم فيك، ما قالَهُ طائرُ السَّمان لي.. لي الماءُ ولَكَ اللَّهب.
دَعْ فراشاتِ البيتِ القديمِ تلهو على أنفِكَ كما في كلِّ مرّةٍ
اجدلْ ضَفيرةَ حلمكَ بماء الوردِ..
معاً نلتقطُ الحبَّ من أرصفَةِ المدينةِ المغبرّةِ
هذا رغيفي نصفهُ لكَ والآخرُ للعَصافيرِ!
تَذكّرْ .. حَبْلكَ السريّ معقوداً بينَ نخلتينِ.. تَتدلّى مِنهُ نَجْمتانِ وقمرٌ وخريفٌ وسيرَةُ حَربٍ جَفَّ حَليبُها.. خُذْ ظلّكَ معكَ.. فالظلالُ تنامُ باكراً وتَستفيقُ حينَ يَندلقُ النبيذُ أوّلَ الفَجْرِ.. ظِلُّكَ وحدهُ _لا غير_ مرَّ مِنْ هُنا..
اخرجْ عن النَّصِ بقوّةِ الإيمانِ واصفرارِ السُنبُلةِ..
كُنْ كَما أنتَ.. تَحْملُ على أطرافِ أصابِعكَ وَجَعَ البِلادِ!
كُنْ دافئاً كالبِلادِ الحَبيسَةِ في المعنى
والآنَ أطلقْ ساقَيكَ للرِّيحِ