الثلاثاء 3 كانون الأول 2024 | 8:12 مساءً بتوقيت دمشق
أحمد محمد السح

"قصائد تومبيست الأولى" اشتراكي من بريطانيا

عدي الأتاسي، فنان تشكيلي سوري
  • الجمعة 25 كانون الثاني 2019

يبدو واضحاً من خلال البحث والتقصي أن الشاعر "بيتر تومبست" غير مشهور على الإطلاق، حتى أنني وقفت عاجزاً عن التعرف إلى جنسيته أو تاريخ ميلاده أو موته – إن كان قد توفي - وبعد استشاراتٍ متعددة مع مهتمين بالشعر المترجم تبيّن أنّ أياً منهم لم يسمع به، وحارت محركات البحث الالكترونية في تقديم أية معلومةٍ عنه، إلى أن حصلنا على معلوماتٍ تفيد أنه شاعر بريطاني اسمه Peter Tempest وأن كتابة اسمه تومبست وليس تيمبست ساهمت في عدم التعرف إليه لكنها ليست السبب الوحيد، فالسبب أنه شيوعيٌ في بريطانيا في ذروة الصراع الشيوعي الرأسمالي.
الواضح أنه متزوج من سيدة اسمها "فيرجينيا" وله ولدٌ اسمه "ريتشارد"، وهذا يذكره في شعره الذي ترجمه لنا المثقف السوري الراحل "مدحة عكاش" من خلال مجلته "الثقافة". لكن المأخذ أن هذا الديوان الصغير، فقير الطباعة، لم يقدّم له "عكاش" بأي سيرة ذاتية أو بحثية عن الشاعر المترجم له "تومبست" ويوضح الغلاف أن الكتاب كانت طبعته الثانية في عام 1994 عن دار مجلة الثقافة، ودون أي تنويهٍ آخر لزمن طباعة الديوان في نسخته الأجنبية التي عرفنا أنها مطبوعة عام 1954، في لندن من قبل ناشرين هما لورنس وويشارت، ومن أبرز ما قام به هذا الشاعر أنه قام بترجمة حوالي 600 صفحة، من الشعر البلغاري، وطبعها في كتاب أسماه (أنطولوجيا الشعر البلغاري 1962) والواضح أن تعاوناً وثيقاً قد حدث بينه وبين الشاعر الروسي "نيكولا فابستروف" في النشر والترجمة، لإيصال الثقافة بين شطري العالم وقتها، ومن أجمل المعلومات التي حصلنا عليها أن هذا الشاعر هو صاحب ترجمة كتاب الرسوم المتحركة الروسي (ماشا والدب) الذي تحول إلى برنامج أطفال عام 2009 وترجم إلى 98 لغة في العالم، وهو من أنجح البرامج وأكثرها شهرة.

 

 

تظهر في "قصائد تومبست الأولى" النزعة الاشتراكية بشكل وواضح، وربما هذا ما دفع “عكاش” للترجمة له، وتبدو اشتراكيته بأصالتها الأول دون تحريفاتٍ أو اعوجاجات لحقت النظرية وعاشقيها فيما بعد، فهو اشتراكي بالمعنى التأصيلي للمفهوم – إن صح التعبير – فهو يرى الحياة من خلال الفلاح والعامل، أي من خلال المعول والمنجل، ويخطط لنظرته ضمن هذا الإطار ويتفهم مظلومية الطبقات ويجد أن الخير كل الخير يأتي للبشرية جمعاء من خلال الانتصار لهذه الطبقة دون سواها، ويتضح ذلك من خلال عدة نصوص منها "الأيدي – وقطار الصباح – والطفلة الراقصة" حيث يعتبر أن هذه الطبقة تنهي مظلوميتها بالبدء بالنضال والكفاح:
في نهاية اليوم نعطف ونحن نغادر العمل
كالخراف وهي تمضي إلى الحوض العميق
ولا راحة من هذا العمل البشع
حتى يقول الشعب: "كفّ".
ومن طبيعة الحال فإن من يتبنى الاشتراكية يجب أن يقارع عدوتها الرأسمالية ويتجه إلى محاربتها والدعوة إلى فضح بشاعة أسلوبها في توزيع الظلم على البشر، ونهب خيراتها وثرواتها، مستخدماً في قصائده الأسلوب الاشتراكي في استخدام مصطلحات النهج الاشتراكي مثل (الثورة، الكفاح، النضال، التحرير، العمال، الإنتاج، رأس المال، الأدوات وسواها من مفاهيم) ربما تبدو الآن الأمور أكثر تعقيداً منها لكن الواضح أن هذه المفاهيم كانت في ذروة انتشارها في العالم إبان نجاح التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي السابق وانتشارها في العالم.
ثمةَ أيدٍ أكرهها
اليد التي تقتل الرجال والنساء والأطفال
من أجل الربح
اليد التي تسحق المناضلين تحت الأقواس
اليد التي تحصي الربح والخسارة ببرود.

 

ومن يطالب بالمساواة في رأس المال والإنتاج ووسائله، بالتأكيد لن يفرق بين عِرْقٍ أو لون، وستكون العنصرية عدواً جديداً مرتبطاً بالظلم وأخذ المكاسب من الناس، هذه العنصرية، على مستوى الأفراد أو على مستوى الدول، و"بيتر تومبست" البريطاني الاشتراكي كان حريصاً على أن يقف في وجه هذه المسألة دون مواربة، معلناً ذلك في أكثر من قصيدة، وكانت أوضحها في قصيدة يعبر عنواناها عنها (الأسود والأبيض، الرجل وراء المقود) ومنها هذا المقطع:
أميركي مرموق استوى في مؤخرة
سيارة كاديلاك فاخرة
يمضغ سيكاراً. والسائق أسود.
السائق زنجي يعلم والده
كم يتألم العبد عندما ذهب ليقطع
الحطب، ويحمل الماء لعدد قليل من الأسياد.
هذه التهمة الواضحة بالعنصرية الأميركية لم تكن صدفة، فالشاعر يلصق كل جور الرأسمالية والعنصرية بأميركا، سواء قال ذلك صراحة أم ألمح إليه، وكان بذلك يعبر عن كرهه للسلاح البشري وأدوات القتل المبتكرة، وخاصة في ذكره حادثة هيروشيما ونكازاكي الكارثية، لذا نقف هنا مع نص كامل لنتخيل كيف يمكن لضحايا القنبلة النووية أن يذكروا لحظة الانفجار:
لم يشهد أحد
مولد كرة النار
ولم ير أحد
الانطلاقة الأولى البارقة
للسلاح الذي
"يدعي السياسيون"
أن بوسعه أن يحول
المادة الحية وغير الحية
إلى رماد.
لا يبدو من خلال ترجمة "عكاش" أن هذا الشاعر كان مولعاً باستخدام الاطنابات اللفظية، أو تفنينات اللغة، بل إنه مولعٌ بالفكرة، مولعٌ أن يطلق صرخته بكل بساطة بلغةٍ تمتاز بأسلوب سهل، ومفردات يسهل لفظها وترجمتها من لغةٍ إلى أخرى:
... بينما الملك المسكين مرتبكٌ في خطاه الوئيدة
وراح الحصان القوي يسود
مباغتاً المهاجمين آخذاً بخناقهم
فإلى أي من اللاعبين عليّ أن أنضم
إذا الظروف، تبدلت؟
قد يبدو لقارئ الكتاب أن هذا الشاعر تغيب لغته الإنسانية العاطفية، وأنه شاعر مهتم بالقضايا الكبرى ولا يعرف التعبير عن مشاعره الخاصة، ولكنك في الصفحات الأخيرة للكتاب تظهرُ النصوص العاطفية الشخصية التي يفردها الشاعر لعلاقة الحب التي جمعته بزوجته فيرجينيا، وبعدها ينطلق إلى حياتهما الزوجية، وفرحه بحملها وإنجابها لمولودهما الأول "ريتشارد"، ويحاول أن يوصف حالته العاطفية والنفسية بفرحة ولادة هذا الطفل بين يديه هذا الطفل الأمل في واجهة هذا العالم:
تعالي إلى كتفي
وأريحي رأسك المتعب
ودعي هذا الشيء البسيط العذب
الذي بيننا يقال
وكما يتبادل المحبون
في لحظات السعادة
قبل أن تتقاسم الشفاه الصامتة
القبلة المتوانية...

ككل شعراء الواقعية والواقعية الجديدة اعتمد "تومبست" على الوصف الحسي، وإعطاء الأشياء المادية رمزيتها، لا الاعتماد على الرمزية والوجودية فقط، إنما تتميز ألفاظهم بأنها أشياء محسوسة يمكن أن توظف لتعطى قيمته العاطفية، فتلبس لبوس الرمزية، كما المعول والمنجل رمزان للعمال والفلاحين وعذاباتهما. وهنا يتعامل "تومبست" مع التلسكوب كاختراع عَرَف به وقتها بنفس التوصيف الحسي منحه رمزيته في استقراء المستقبل لا النجوم فحسب:
التلسكوب يستقر في طرف من المعرض
وحوله نفرٌ قليل من الناس
كل شيء يلفه الهدوء
والرجل المسن يرقد
على كرسي محطم.
هذا الكتاب الذي نمرّ عليه اليوم، لم يمرّ عليه أحدٌ من قبل، ربما، وهو واحد من عدد كتب الراحل "عكاش" التي تبقى محرضة على قراءتها والتوقف عندها.