الأحد 22 كانون الأول 2024 | 11:28 صباحاً بتوقيت دمشق
معتز نادر

بعيداً عن الخداع "الراقي"!

بعيداً عن الخداع
بابلو بيكاسو (1881- 1973) فنان إسباني (إنترنت).
  • الأربعاء 28 آب 2019

ربّما من الصّعب جوهريًّا تكرار حالات أدبيّة وفنيّة من حيث حجم الموهبة الواضحة؛ على شاكلة "موتسارت" و"هيجو" و"أنطون تشيخوف" و"ألبير كامو" و"رامبو" و"فرويد" و"إينشتاين" و"يوربيديس" وغيرهم من غالبيّة نتاجهم يكون جذّاب وممتع وقريب من القلب، ومن هنا يكمن سر عبقريّتهم برأيي، و"نيتشه" أيضاً صاحب فكر جذّاب، عندما أفكّر بسيرته أشعر بالخيبة قليلاً لأجله؛ ظلم أكثر من حدود المعرفة التي تحتاجها مغامرته في الحياة، لكن نهايته تبدو منطقيّة لرجلٍ كان كل ما يُنتج عنه متفجّراً، نَزقه اللغويّ وفكره السّليط القاسي لم يطغيا على حقيقة كونه مفكّرًا شاعريّ هو أحد الشّخصيّات الذي يروق للمتتبّع أن يرى الجّوانب المشرقة من نتاجه وحسب عيبه -من وجهة نظري- أنّه لم يكنْ يريد أن يتوقّف عند الأشخاص المنسيّين تحت أنقاض الفكر والمادّة وهؤلاء ليسوا بالضّرورة من فئة الضّعفاء الذين يمقتهم.
كان في مشواره نحو الألق الفكريّ يفضّل الوقوف على جثثهم الممزّقة وحظّهم السّيئ كي ينعتهم بالحثالة، بينما هو نفسه عرف الشّعور البائس في العديد من مراحل حياته من زاوية تخيُّليّة وبعيدًا عن إمكانيّاته الأدبيّة الجبّارة أتخيل "شكسبير" وفقًا للطّقس الأميريّ البريّطانيّ بأنّه كان بروتوكوليًّا ولا يختلف حياتيًّا عن منظومة التّبعية الملكيّة السّائدة في بريطانيا آنذاك أفكاره حسبما تشي أعماله العظيمة كانت ترفض أيّ تمرّد على منظومة العرش الملكيّ يبدو لي عكس ما كان عليه أُناسًا مثل "أنطون تشيخوف" و"فيكتورهيجو" اللذين كلّما قاما به أو كتباه خلال حياتهما كان جدّيًّا حيويًّا وعميق الغور، كانا واقعيّين إلى حدٍّ كبير.
بالفعل أكثر ما عانى منه التّاريخ الأدبيّ والفكريّ عبر مسيرته كان الفقر في طرح شاعريّة الفكرة إذ لطالما احتاج العالم للفكر الذي يحترم أشياء الحياة العميقة التي لا يمكن فصلها عن شاعريّة الفكرة، لا تروقني مثلاً أشعار "توماس إليوت" وبصرف النّظر عن شعره المترفّع الذي لا ينضوي برأيي على الكثير من الموهبة فإنّ نظراته التي تحاكي المثقف المتأنف تعزز من نظرتي بأنّه يفتقد لحساسيّة شّعراء عظماء مثل "رامبو- ناظم حكمت- طاغور- هوميريوس..." وطبعًا ثمّة شعراء من كافّة الأنحاء "روبرت بروك- رياض صالح الحسين- ديمتري ديبليانوف... وغيرهم" يمتلكون الموهبة الشّعريّة المتواجدة لدى عظماء الشّعر.
بالنّسبة للفنّ التشكيليّ، ثمّة أمر مشابه من حيث نوعيّة الغموض الإبداعيّ إذ نتابع لوحات تُباع بملايين الدولارات دون أن نفهم ما تحتويه ولو بذرّة! إلّا إذا شرحها لك صاحب العمل نفسه. أستطيع أن أشرد مثلاً في لوحة "المرأة الباكية" لبيكاسو، أو "غرينيكا" التي تحمل تلميح لتشوّه فنّي وإنسانيّ معيّن أو الاستمتاع والتّأمل بلوحة "الموناليزا" لدافنشي، أو"ليلة النّجوم" لفان كوخ، ثمّ أتسائل لاحقًا عن سرّ العبقريّة في الفنّ التشكيليّ هذه الأيام عندما تُباع لوحة غير مفهومة وتفتقر للجاذبيّة بالمطلق بملايين الدولارات، إذ مهما كان معنى الشّيء الخفيّ موحي ولافت لن يكون بروعة الفن المباشر الذي يخطف الأبصار، دون أن يكون الهدف من هذا الطّرح القشرة السّطحيّة للجسم الفنّي فموهبة الرّسم لدى الفنّان "مايكل إنجيلو" كانت عميقة وواضحة للجّميع في غالبيّة لوحاته مثل "لوحة القيامة" أو "خلق آدم".
إذا كان الرّسّام ذو إحساس عالٍ وطبع فنيّ ثاقب عليه أن يجعلني أشعر بالقليل منه، فَهمِي للخطوات الفنية في محاولتها إنجاز الإبداع الخاصّ بصاحب العمل مختلفةً عن إحساسي بالرّوعة التّلقائيّة والتي هي أساس العمل الفني؛ إذ من غير الوارد أن يدرس المرء الفن التشكيلي برمّته كي يفهم لوحة ما!
أفهم أنّ هناك مدارس خاصّة بالفن التشكيلي لكن الإغراق في الإبداع السّريالي بماذا سيفيد إذا كان عاجزًا عن تصدير الحالة الجّماليّة في حدّها الأدنى؟!
تلك النّظرة الفنيّة المترفّعة التي هدفت لها الفكرة السّابقة المسيطرة على العقول والأفئدة والتي تجعل الفنّان أو الأديب راضيًا ومقتنعًا بقالبه غير المفهوم وتصنع منه لغزًا، لا قرار لها، وهذه ميزة سلبيّة من ميّزات اللّغة الفنّيّة العصريّة ونوع من الخداع "الرّاقي" عندما يحاول الاقتراب من جوهر الفنّ.
الشّخص العاديّ الذي ينظر لنفسه بأنّ إمكانياته يتعذّر عليها الاقتراب من المُنجزين لذلك الشّكل الفنّي سيكون مقتنعًا ضمنيًّا بأنّ عقله لن يتقبّل ذلك الفنّ ولن يُعجب به إلّا إذا استعصى على فهمه وهذه رؤية خاطئة!
المفكّر الفيلسوف هو أكثر المشكّكين بفكرته لذلك يحتاج الوقت والكلام الكثير للشّرح عنها.
اليوم يبدو أنّه لا يوجد صبر كافٍ للكثيرين منّا لقراءة كتّاب عباقرة مثل "هيغل" و"ديكارت" رغم تأثيرهم الكبير وأعمالهم العظيمة.
الأدب الجذّاب يحتاج المغامرة والولوج والقدرة على شمّ الرّوائح؛ روائح الأشياء والباحثين عن الأحلام عن جدران الأبنية الكلاسيكيّة العظيمة المنتبهين لصدى صنبور الماء بينما يشح. هناك يعيش القلم وذوّاقة الكِتاب في العصور النّصف محترمة هذه وعصر الإفراط الماديّ المسيطر في الغرب، يفتقدون إلى حساسيّة النّظرة للتقشّف والتي لا أقصد بها نظرة الشّفقة على الفقراء بل هم ينظرون فقط لمن مثلهم.
في دمشق القديمة كنت أراقب وجوه السّيّاح الأجانب الأوروبيين وكنت أشعر لكم هم بعيدون عن تحضّرهم الواضح، عن شيء يجب ألّا يكونوا بعيدين عنه، شيء يخصّهم أحسّه دون الحاجة لشرحه.
البشر والقرّاء على حدٍّ سواء مهووسون بالأفكار الملغزة والكلام الغامض غير المفهوم! ويبدون إعجابهم دون أن يفهموا الكثير ممّا يقرأون.
بواقع الأمر هم غير معجبين بالأفكار المطروحة بقدر ما يروقهم اختبار حدسهم الأدبي من هنا وهناك وهذا ما يجعلهم يطلقون على أنفسهم "مثقّفين" بينما لا يعترفون بالأشياء التي لا يفهمونها وبذات الوقت يسلّمون في دواخلهم بأنهم ليسوا بمستوى الكاتب الكبير الذي يجيد السّرد وهذا كذب على النّفس وخطأ بنيويّ في العقل الذي يريد تعاطي الأدب والفكر لا يجب الاعتراف بالهزيمة أمام الفنّ والأدب وبأننا دون المستوى المأمول لمجاراته.
التفرّد والإبداع والنّبوغ الفكريّ حالات خاصّة ولن تكون حالات خاصّة مستقلّة وذات صلة إن كان من المستحيل شرحها أو إيصالها للقادم الأقلّ موهبة.
إن انتقاد العصور الرّاهنة ليس محض موضة مؤقتة بالنّسبة للعقل المفكّر وإنّما ضرورة حرّة تضع نصب عينها التوقّع الذي يحاول تحسين صورة الحياة.